اعتزلتموهم ومعبوديهم إلا الله ، أو عبادتهم إلا عبادة الله ، وعلى التقديرين : فالاستثناء متصل على تقدير أنهم كانوا مشركين يعبدون الله والأصنام. ومنقطع ؛ على تقدير تمحضهم بعبادة الأوثان ، ويجوز أن تكون (ما) نافية ؛ على أنه إخبار من الله ـ تعالى ـ عن الفتية بالتوحيد ، معترض بين (إِذِ) وجوابه العامل فيها.
يقول الحق جل جلاله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ) ، والنبأ : الخبر الذي له شأن وخطر ، قصصا ملتبسا (بِالْحَقِ) : بالصدق الذي لا يطرقه كذب ولا ريبة.
وخبرهم ، حسبما ذكر محمد بن إسحاق : أنه قد مرج أهل الإنجيل ، وظهرت فيهم الخطايا ، وطغت ملوكهم ، فعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت ، وكان من بالغ فى ذلك وعتا عتوا كبيرا : «دقيانوس» ؛ فإنه غلا فيه غلوا كبيرا ، فجاس خلال الديار والبلاد ؛ بالعبث والفساد ، وقتل من خالفه ممن تمسك بدين المسيح ، وكان يتتبع الناس فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان ، فمن رغب فى الحياة الدنيا الدنية : تبعه وصنع ما يصنع ، ومن آثر عليها الحياة الأبدية : قتله وقطع آرابه (١) ، وعلّقها بسور المدينة وأبوابها. فلما رأى الفتية ذلك ، وكانوا عظماء مدينتهم ، وكانوا بنى الملوك ، قاموا فتضرعوا إلى الله تعالى ، واشتغلوا بالصلاة والدعاء ، فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أعوان الجبار ، فأحضروهم بين يديه ، فقال لهم ما قال ، فخيّرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان ، فقالوا : إن لنا إلها ملأ السماوات والأرض عظمة وجبروتا ، لن ندعو من دونه أحدا ، ولن نقر بما تدعونا إليه أبدا ، فاقض ما أنت قاض ، فأمر بنزع ما عليهم من الثياب الفاخرة ، وأخرجهم من عنده. زاد فى رواية : وضمنهم أهلهم ، وخرج إلى مدينة (نينوى) ؛ لبعض شأنه ، وأمهلهم إلى رجوعه ؛ ليتأملوا فى أمرهم ، وإلّا فعل بهم ما فعل بسائر المسلمين.
فأجمعت الفتية على الفرار والالتجاء إلى الكهف الحصين ، فأخذ كلّ منهم من بيت أبيه شيئا ، فتصدقوا ببعضه ، وتزودوا بالباقي ، فأووا إلى الكهف. وفى رواية : أنهم مروا بكلب فتبعهم ، على ما يأتى فى شأنه ، فجعلوا يصلّون فى ذلك الكهف آناء الليل وأطراف النهار ، ويبتهلون إلى الله ـ سبحانه ـ بالأنين والجؤار ، ففوضوا أمر نفقتهم إلى «يمليخا» ، فكان إذا أصبح يضع عنه ثيابه الحسان ، ويلبس ثياب المساكين ، ويدخل المدينة ويشترى ما يهمهم ، ويتحسس ما فيها من الأخبار ، ويعود إلى أصحابه ، فلبثوا على ذلك إلى أن قدم الجبار المدينة فطلبهم ، وأحضر آباءهم ، فاعتذروا بأنهم عصوهم ونهبوا أموالهم ، وبذروها فى الأسواق ، وفروا إلى الجبل.
فلما رأى «يمليخا» ما رأى من الشر رجع إلى أصحابه وهو يبكى ، ومعه قليل من الزاد ، فأخبرهم بما شهد من الهول ، ففزعوا إلى الله ـ عزوجل ـ وخروا له سجدا ، ثم رفعوا رؤوسهم وجلسوا يتحدثون فى أمرهم ، فبينما هم كذلك
__________________
(١) أي أعضاءه. واحده : إرب .. انظر اللسان (أرب ١ / ٥٥).