ما يهم فى الوقت ، والورق : الفضة ، مضروبة أو غير مضروبة ، ووصفها باسم الإشارة يقتضى أنها كانت معينة ليشترى بها قوت ذلك اليوم ، وحملها دليل على أن التزود لا ينافى التوكل ، وقد كان نبينا صلىاللهعليهوسلم يتزود لغار حراء ليتعبد فيه. ثم قالوا : (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها) أي : أىّ أهلها (أَزْكى طَعاماً) أي : أحل وأطيب ، أو أكثر وأرخص ، (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) أي : من ذلك الأزكى طعاما ، (وَلْيَتَلَطَّفْ) : وليتكلف اللطف فى دخول المدينة وشراء الطعام ، لئلا يعرف ، (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) ؛ ولا يخبر بكم ولا بمكانكم أحدا من أهل المدينة ، أو : لا يفعل ما يؤدى إلى ذلك.
ثم علل النهى بقوله : (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) : يطلعوا عليكم ، أو يظفروا بكم ، والضمير : للأهل المقدر فى «أيها» أي : إنّ أهل المدينة إن يظفروا بكم (يَرْجُمُوكُمْ) إن ثبتم على ما أنتم عليه ، (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) أي : يصيروكم إليها ويدخلوكم فيها ؛ كرها ، كقوله تعالى : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) (١) ، وقيل : كانوا على ملتهم ثم خالفوهم للحق. (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً) ؛ إن دخلتم فيها ، ولو بالكره والجبر ، (أَبَداً) ، لا فى الدنيا ولا فى الآخرة ، وفيه من التشديد والتحذير ما لا يخفى.
الإشارة : وكذلك بعثنا من توجه إلينا من نوم الغفلة والجهالة ليتساءلوا بينهم ؛ ليتعرفوا ما أنعم الله به عليهم من اليقظة والنجاة من البطالة ، فإذا انتبهوا من نوم الغفلة ، استصغروا أيام البطالة ؛ لأن أيام الغفلة قليلة أمدادها ، وإن كثرت آمادها ، وفى الحكم : «رب عمر اتسعت آماده ، وقلّت أمداده» ، بخلاف زمان اليقظة ، فإنه كثيرة أمداده ، وإن قلّت آماده ، فهو طويل ؛ معنى ، وإن قلّ ؛ حسا ، ولذلك قال فى الحكم أيضا : «ورب عمر قليلة آماده ، كثيرة أمداده». وقال أيضا : «من بورك له فى عمره : أدرك فى يسير من الزمان من منن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة».
فإن توقفوا على قوت أشباحهم التمسوا أطيبه وأزكاه وأحله ، فإنّ أكل الحلال ينور القلوب وينشط الأعضاء للطاعة ، وتلطفوا فى أخذه من غير مزاحمة ولا حرص ولا تعب ، فإن أطلعهم الله على سره المكنون من أسرار ذاته بالغوا فى إخفائه ، حتى لا يشعروا به أحدا من خلقه ، غير من هو أهل له ؛ لأنهم ، إن أظهروه لغيرهم ، رجموهم أو أعادوهم إلى ملتهم ، بأن يقهروهم إلى الرجوع عن طريق القوم ، ولن يفلحوا إذا أبدا. وبالله التوفيق.
__________________
(١) من الآية ١٣ من سورة إبراهيم.