الذي لبثوا فيه. (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ما غاب فيهما ، وخفى من أحوال أهلها ، (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) أي : ما أسمعه وما أبصره. دل بصيغة التعجب على أن سمعه تعالى وبصره خارج عما عليه إدراك المدركين ؛ لأنه تعالى لا يحجبه شىء ، ولا يحول دونه حائل ، ولا يتفاوت بالنسبة اليه اللطيف والكثيف ، والصغير والكبير ، والخفي والجلى. والتعجب فى حقه تعالى مجاز ؛ لأنه إنما يكون مما خفى سببه ، ولأنه دهشة وروعة تلحق المتعجب عند معاينة ما لم يعتده ، وهو تعالى منزّه عن ذلك ، فيؤوّل بأنه مبالغة فى إحاطة سمعه وبصره بكل شىء ، كما تقدم.
(ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) أي : ما لأهل السموات والأرض من دونه تعالى من ولى ؛ يتولى أمورهم وينصرهم إلا هو سبحانه ، (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ) : فى قضائه فى علم الغيب (أَحَداً) منهم ، ولا يجعل له فيه مدخلا ، وقرئ بالخطاب لكل أحد ، أي : ولا تشرك أيها السامع فى حكمه وتدبيره أحدا من خلقه ، فإنه لا فعل له ولا تدبير. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد تضمنت إشارة الآية خمس خصال من خصال الصوفية :
الأولى : ترك المراء والجدال ، إلا ما كان على وجه المذاكرة والمناظرة فى استخراج الحق أو تحقيقه ، من غير ملاججة ولا مخاصمة ، فى سهولة وليونة وسلامة القلوب.
الثانية : استفتاء القلوب فيما يعرض من الأمور ؛ قال صلىاللهعليهوسلم : «استفت قلبك ، وإن أفتاك المفتون وأفتوك ، فالبر ما اطمأن القلب وسكن إليه ، والإثم ما حاك فى الصدر وتردد» (١) ، والمراد بالقلوب التي تستفتى. القلوب الصافية المنورة بذكر الله ، الزاهدة فيما سوى الله ، فإنها إذا كانت بهذه الصفة لا يتجلى فيها إلا الحق ، ولا تسكن إلا إلى الحق ، بخلاف القلوب المخوضة بحب الدنيا والهوى ، فلا تفتى إلا بما يوافق هواها.
الثالثة : التفويض إلى مشيئة الله وتدبيره ، والرضا بما يبرز به القضاء ، بحيث لا يعقد على شىء ، ولا يجزم بفعل شىء ، إلا ملتبسا بمشيئة الله ، فينظر ما يفعل الله ، فالعاقل إذا أصبح نظر ما يفعل الله به ، والجاهل إذا أصبح نظر ما يفعل بنفسه ، كما قال صاحب الحكم.
الرابعة : الاشتغال بالذكر والفكر ، حتى يغيب عما سوى المذكور ؛ قال تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) أي : إذا نسيت ما سواه ، حينئذ تكون ذاكرا حقيقة ، فالذكر الحقيقي : هو الذي يغيب صاحبه عن شهود نفسه ورسمه وحسه ، حتى يكون الحق تعالى هو المتكلم على لسانه ؛ لشدة غيبته فيه ، وهذا أمر مشاهد لمن عثر على شيخ التربية والتزم صحبته.
__________________
(١) أخرجه بنحوه الإمام أحمد فى المسند (٤ / ٢٢٤) ، وابن عساكر فى تاريخ دمشق (تهذيب ٣ / ٢١٢) عن وابصة. وصححه محقق المسند. وزاد فى كشف الخفاء (٢ / ١٢٤) عزو الحديث لأبى يعلى وأبى نعيم.