وبصحبتهم تدوم حياة الطريق ، ويصل العبد إلى معالم التحقيق ، وفى ذلك يقول الشيخ أبو مدين رضي الله عنه :
ما لذّة العيش إلا صحبة الفقرا |
|
هم السّلاطين والسّادات والأمرا |
فاصحبهم وتأدّب فى مجالسهم |
|
وخلّ حظّك مهما خلّفوك ورا |
إلى آخر كلامه.
وقوله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) قال القشيري : لم يقل : واصبر قلبك ؛ لأن قلبه كان مع الحق تعالى ، فأمره بصحبة الفقراء جهرا بجهر ، واستخلص قلبه لنفسه سرا بسرّ. ه. قال الورتجبي : اصبر نفسك مع هؤلاء الفقراء ، العاشقين لجمالى ، المشتاقين إلى جلالى ، الذين هم فى جميع الأوقات يسألون متى لقاء وجهى الكريم ، ويريدون أن يطيروا بجناح المحبة إلى عالم وصلي ، حتى يكونوا متسلين بصحبتك عن مقام الوصال ، وفى رؤيتهم لك رؤية ذلك الجمال. ه.
وقوله تعالى : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ، بيّن أن دعاءهم وسؤالهم إنما هو رؤيته ولقاؤه ، شوقا إليه ومحبة فيه ، من غير تعلق بغيره ، أو شغل بسواه ، بل همتهم الله لا غيره ، وإلّا لما صدق قصر إرادتهم عليه. قال فى الإحياء : من يعمل اتقاء من النار خوفا ، أو رغبة فى الجنة رجاء ، فهو من جملة النيات الصحيحة ؛ لأنه ميل إلى الموعود فى الآخرة ، وإن كان نازلا بالإضافة إلى قصد طاعة الله وتعظيمه لذاته ولجلاله ، لا لأمر سواه. ثم قال : وقول رويم : الإخلاص : ألا يريد صاحبه عليه عوضا فى الدارين ، هو إشارة لإخلاص الصدّيقين ، وهو الإخلاص المطلق ، وغيره إخلاص بالإضافة إلى حظوظ العاجلة. ه. من الحاشية.
ثم أمره بالصدع بالحق ، فقال :
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩))
قلت : (الْحَقُّ) : خبر ، أي : هذا الذي أوحى إلىّ الحقّ.
يقول الحق جل جلاله : (وَقُلِ) يا محمد لأولئك الغافلين المتبعين أهواءهم ، أو : لمن جاءك من الناس : هذا الذي جئتكم به من عند ربى هو (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : من جهة ربكم ، لا من جهتى ، حتى يتصور فيه التبديل ، أو يمكن التردد فى اتباعه. (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ، وهو تهديد ، أي : فمن شاء أن يؤمن فليؤمن كسائر المؤمنين ، ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعليل ، ومن شاء أن يكفر فليفعل ، وفيه مع التهديد الاستغناء عن متابعتهم ، وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم.