قلت : (عِتِيًّا) : مصدر ، من عتا يعتو ، وأصله : عتوو ، فاستثقل توالى الضمتين والواوين ، فكسرت التاء ، فقلبت الأولى ياء ؛ لسكونها وانكسار ما قبلها ، ثم قلبت الثانية أيضا ؛ لاجتماع الواو والياء ، وسبق إحداهما بالسكون. (قالَ كَذلِكَ) : خبر ، أي : الأمر كذلك ، فيوقف عليه ، ثم يقول : (قالَ رَبُّكَ) ، أو مصدر لقال الثانية ، أي : مثل ذاك القول قال ربك. و (سَوِيًّا) : حال من فاعل (تُكَلِّمَ).
يقول الحق جل جلاله : (يا زَكَرِيَّا) ، كلمه بواسطة الملك : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ) ونجيب دعوتك (بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) ؛ لأنه حيى به عقم أمه. أجاب نداءه فى الجملة ، لا من كل وجه ، بل على حسب المشيئة ، فإنه طلب ولدا يرثه ، فأجيب فى الولد دون الإرث ؛ فإن الجمهور على أن يحيى مات قبل موت أبيه ـ عليهماالسلام ـ وقيل : بقي بعده برهة ، فلا إشكال حينئذ. وفى تعيين اسمه تأكيد للوعد وتشريف له ، وفى تخصيصه به ـ كما قال تعالى : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أي : شريكا فى الاسم ، حيث لم يتسم به أحد قبله ـ مزيد تشريف وتفخيم له عليهالسلام ؛ فإن التسمية بالأسماء البديعة الممتازة عن أسماء الناس تنويه بالمسمى لا محالة (١). وقيل : (سَمِيًّا) : شبيها فى الفضل والكمال ، كما قال تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (٢) فإنه عليهالسلام لم يكن قبله أحد مثله فى بعض أوصافه ، لأنه لم يهم بمعصية قط ، وأنه ولد لشيخ فان ، وعجوز عاقر ، وأنه كان حصورا ، ولم تكن هذه الخصال لغيره.
(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) أي : من أين وكيف يحدث لى غلام ، (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) : عقيمة ، (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) : يبسا فى الأعضاء والمفاصل ، ونحولا فى البدن ، لكبره ، وكان سنّه إذ ذاك مائة وعشرين ، وامرأته ثمان وتسعين. وتقدم الخلاف فيه. وإنما قاله عليهالسلام مع سبق دعائه وقوة يقينه ، لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة فى آل عمران ؛ استعظاما لقدرة الله تعالى ، وتعجيبا منها ، واعتدادا بنعمته تعالى عليه فى ذلك ، بإظهار أنه من محض فضل الله وكرمه ، مع كونه فى نفسه من الأمور المستحيلة عادة. وقيل : كان دهشا من ثمرة الفرح ، وقيل : كان ذلك منه استفهاما عن كيفية حدوثه. وقيل : بل كان ذلك بطريق الاستبعاد ، حيث كان بين الدعاء والبشارة ستّون سنة ، وكان قد نسى دعاءه ، وهو بعيد.
(قالَ كَذلِكَ) أي : الأمر كما ذكر من كبر السن وعقم المرأة ، لكن هو على قدرتنا هين ، ولذلك قال : (قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) ، أو مثل ذلك القول البديع قال ربك ، ثم فسره بقوله : (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) ، أو «مثل» مقحمة ، أي : ذلك قال ربك. والإشارة إلى مصدره ، الذي هو عبارة عن إيجاد الولد السابق ، أو كذلك قضى ربك.
__________________
(١) وجه الفضيلة : أن الله تعالى تولى تسميته ، ولم يكل ذلك إلى أبويه ، فسمّاه باسم لم يسبق إليه ... راجع : زاد المسير (٥ / ٢١٠).
(٢) من الآية ٦٥ من سورة مريم.