يموت ، (قَبْلَ هذا) الوقت الذي لقيت فيه ما لقيت ، وإنما قالته ، مع أنها كانت تعلم ما جرى لها مع جبريل عليهالسلام من الوعد الكريم ؛ استحياء من الناس ، وخوفا من لائمتهم ، أو جريا على سنن الصالحين عند اشتداد الأمر ، كما روى عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تبنة من الأرض ، فقال : «ليتني هذه التبنة ولم أكن شيئا». وقال بلال : (ليت بلالا لم تلده أمه). ثم قالت : (وَكُنْتُ نَسْياً) (١) أي : شيئا تافها شأنه أن ينسى ولا يعتد به ، (مَنْسِيًّا) لا يخطر ببال أحد من الناس. وقرئ بفتح النون ، وهما لغتان ؛ نسى ونسى ، كالوتر والوتر. وقيل : بالكسر : اسم ما ينسى ، وبالفتح : مصدر.
(فَناداها) أي : جبريل عليهالسلام (مِنْ تَحْتِها) ، قيل : إنه كان يقبل الولد من تحتها ، أي : من مكان أسفل منها ،. وقيل : من تحت النخلة ، وقيل : ناداها عيسى عليهالسلام ، ويرجحه قراءة من قرأ بفتح الميم ، أي : فخاطبها الذي تحتها : (أَلَّا تَحْزَنِي) ، أو : بألا تحزنى ، على أنّ «أن» مفسرة ، أو مصدرية ، حذف عنها الجار. (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ) أي : بمكان أسفل منك (سَرِيًّا) أي : نهرا صغيرا ، حسبما روى مرفوعا. (٢) قال ابن عباس رضى الله عنهما : (إن جبريل عليهالسلام ضرب برجله الأرض ، فظهرت عين ماء عذب ، فجرى جدولا). وقيل : فعله عيسى ، أي : ضرب برجله فجرى ، وقيل : كان هناك نهر يابس ـ أجرى الله تعالى فيه الماء ، كما فعل مثله بالنخلة ، فإنها كانت يابسة لا رأس لها ، فأخرج لها رأسا وخوصا وتمرا. وقيل : كان هناك نهر ماء. والأول أظهر ؛ لأنه الموافق لبيان إظهار الخوارق ، والمتبادر من النظم الكريم.
وقيل : (سَرِيًّا) أي : سيدا نبيلا رفيع الشأن جليلا ، وهو عيسى عليهالسلام ، والتنوين حينئذ للتفخيم. والجملة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهى. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها ؛ لتشريفها وتأكيد التعليل وتكميل التسلية.
ثم قال : (وَهُزِّي إِلَيْكِ) أي : حركى النخلة إليك ، أي : جاذبة لها إلى جهتك. فهزّ الشيء : تحريكه إلى الجهات المتقابلة تحريكا عنيفا ، والمراد هنا ما كان بطريق الجذب والدفع. والباء فى قوله : (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) : صلة للتأكيد ، لقول العرب : هزّ الشيء وهز به ، أو للإلصاق. فإذا هززت النخلة (تُساقِطْ) (٣) أي : تتساقط. وقرئ : تساقط ، وتسقط ، أي : النخلة عليك إسقاطا متواترا بحسب تواتر الهز (رُطَباً جَنِيًّا) أي : طريا ، وهو ما قطع قبل يبسه. فعيل بمعنى مفعول ، أي : مجنيا صالحا للاجتناء. (فَكُلِي) من ذلك الرطب
__________________
(١) قرأ حفص وحمزة بفتح النون ، والباقون بكسرها .. انظر الإتحاف (٢ / ٢٣٥).
(٢) أخرج المرفوع الطبراني فى المعجم الصغير (١ / ٢٤٤) من حديث البراء بن عازب ، وأخرجه فى الكبير (١٢ / ٣٤٦ ح ١٣٣٠٣) من حديث ابن عمر.
(٣) هذه قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبى عمرو ، وابن عمرو ، والكسائي. وقرأ حفص «تساقط» بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف. وقرأ حمزة «تساقط» بفتح التاء والقاف وتخفيف السين ، والأصل : تتساقط. انظر : التبصرة / ٢٥٦ ، والإتحاف (٢ / ٢٣٥).