تمشطها ، فوقع المشط من يدها ، فقالت : بسم الله ، فقالت ابنته : أبى؟ فقالت : لا ، بل ربى وربك ورب أبيك. فقالت : أخبر بذلك أبى؟ قالت : نعم ، فأخبرته فدعاها ، وقال : من ربك؟ قالت : ربى وربك فى السماء ، فأمر فرعون ببقرة ـ أي : آنية عظيمة من نحاس ـ فأحميت ، ودعاها بولدها ، فقالت : إن لى إليك لحاجة ، قال : وما حاجتك؟ قالت : تجمع عظامى وعظام ولدي فتدفنها جميعا ، قال : وذلك لك علينا من الحقّ ، سأفعل ذلك لك ، فأمر بأولادها واحدا واحدا ، حتى إذا كان آخر ولدها ، وكان صبيا مرضعا ، قال : اصبري يا أمه .. فألقاها فى البقرة مع ولدها (١). ه.
الإشارة : يؤخذ من الآية أمور صوفية ، منها : أن الإنسان يباح له أن يستتر فى الأمور التي تهتك عرضه ، ويهرب إلى مكان يصان فيه عرضه ، إلا أن يكون فى مقام الرياضة والمجاهدة ، فإنه يتعاطى ما تموت به نفسه ، ومنها : أنه لا بأس أن يلجأ الإنسان إلى ما يخفف آلامه ويسهل شدته ، ولا ينافى توكله. ومنها : أن لا بأس أن يتمنى الموت إذا خاف ذهاب دينه أو عرضه ، أو فتنة تحول بينه وبين قلبه. ويؤخذ أيضا من الآية : أن فزع القلب عند الصدمة الأولى لا ينافى الصبر والرضا ؛ لأنه من طبع البشر ، وإنما ينافيه تماديه على الجزع.
ومنها : أن تحريك الأسباب الشرعية لا ينافى التوكل ، لقوله تعالى : (وَهُزِّي إِلَيْكِ). لكن إذا كانت خفيفة مصحوبة بإقامة الدين ، غير معتمد عليها بقلبه ، فإن كان متجردا فلا يرجع إليها حتى يكمل يقينه ، ويتمكن فى معرفة الحق تعالى. وقد كانت فى بدايتها تأتى إليها الأرزاق بغير سبب كما فى سورة آل عمران (٢) ، وفى نهايتها قال لها : (وَهُزِّي إِلَيْكِ). قال الشيخ أبو العباس المرسى رضي الله عنه : كانت فى بدايتها متعرفا إليها بخرق العادات وسقوط الأسباب ، فلما تكمل يقينها رجعت إلى الأسباب ، والحالة الثانية أتم من الحالة الأولى ، وأما من قال : إن حبها أولا كان لله وحده ، فلما ولدت انقسم حبها ، فهو تأويل لا يرضى ولا ينبغى أن يلتفت إليه ، لأنها صدّيقة ، والصدّيق والصدّيقة لا ينتقلان من حالة إلا إلى أكمل منها.
ومنها : أن الإنسان لا بأس أن يوجب على نفسه عبادة ، إذا كان يتحصن بها من الناس ، أو من نفسه ، كالصوم أو الصمت (٣) أو غيرهما ، مما يحجزه عن العوام ، أو عن الانتصار للنفس.
وقوله تعالى : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ...) الآية : قال : الورتجبي : سلام يحيى سلام تخصيص الربوبية على العبودية. ثم قال : وسلام عيسى من عين الجمع ، سلام فيه مزية ظهور الربوبية فى معدن العبودية. وأرفع المقامين سلام الحق على سيد المرسلين كفاحا فى وصاله وكشف جماله ، ولو سلّم عليه بلسانه كان بلسان الحدث ، ولا يبلغ رتبة سلامه بوصف قدمه. ه.
__________________
(١) أخرجه أحمد فى المسند (١ / ٣٠٩) مرفوعا. والحديث فى مجمع الزوائد (١ / ٦٥) وعزاه لأحمد والبزار والطبراني فى الكبير والأوسط.
(٢) فى قوله تعالى : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ..) الآية ٣٧.
(٣) قلت : ما قاله جائز فى الصوم ، وغير جائز فى الصمت ؛ لما ورد فى الحديث أن النبي صلىاللهعليهوسلم أمر الذي نذر الصوم والصمت أن يتم صومه ، وأن يتكلم. فتأمله ؛ فإنه دقيق.