قال تعالى : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) ، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، تنبيها على سوء صنيعهم ، بجعلهم ما يوجب الاتفاق منشا للاختلاف ، فإن ما حكى من مقالات عيسى عليهالسلام ، مع كونها نصوصا قاطعة فى كونه عبده تعالى ورسوله ، قد اختلفت اليهود والنصارى بالتفريط والإفراط ، وفرّق النصارى ، فقالت النسطورية : هو ابن الله ، وقالت اليعقوبية : هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء ، وقالت الملكانية : هو ثالث ثلاثة. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) وهم : المختلفون فيه بأنواع الضلالات. وأظهر الموصول فى موضع الإضمار ؛ إيذانا بكفرهم جميعا ، وإشعارا بعلّيّة الحكم ، (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي : ويل لهم من شهود يوم عظيم الهول والحساب والجزاء ، وهو يوم القيامة ، أو : من وقت شهوده أو مكانه ، أو من شهادة اليوم عليهم ، وهو أن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء ـ عليهمالسلام ـ وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ، بالكفر والفسوق.
(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) أي : ما أسمعهم وما أبصرهم ، تعجب من حدة سمعهم وإبصارهم يومئذ. والمعنى : أن أسماعهم وأبصارهم (يَوْمَ يَأْتُونَنا) للحساب والجزاء جدير أن يتعجب منها ، بعد أن كانوا فى الدنيا صما عميا. أو : ما أسمعهم وأطوعهم لما أبصروا من الهدى ، ولكن لا ينفعهم يومئذ مع ضلالهم عنه اليوم ، فقد سمعوا وأبصروا ، حين لم ينفعهم ذلك. قال الكلبي : لا أحد يوم القيامة أسمع منهم ولا أبصر ، حين يقول الله لعيسى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) (١). ه. ويحتمل أن يكون أمر تهديد لا تعجب ، أي : أسمعهم وأبصرهم مواعيد ذلك اليوم ، وما يحيق بهم فيه ، فالجار والمجرور ، على الأول ، فى موضع رفع ، وعلى الثاني : نصب. (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ) أي : فى الدنيا ، (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : لا يدرك غايته ، حيث غفلوا عن الاستماع والنظر بالكلية. ووضع الظالمين موضع الضمير ؛ للإيذان بأنهم فى ذلك ظالمون لأنفسهم حيث تركوا النظر.
(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يوم يتحسر الناس قاطبة ، أما المسيء فعلى إساءته ، وأما المحسن فعلى قلة إحسانه ، (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) أي : فرغ من يوم الحساب ، وتميز الفريقان ، إلى الجنة وإلى النار.
روى أن النبي صلىاللهعليهوسلم سئل عن ذلك ، فقال : «حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح ، فيذبح ، والفريقان ينظرون ، فينادى ؛ يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ، وأهل النار غما إلى غمهم ، ثم قرأ صلىاللهعليهوسلم : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) ، وأشار بيده إلى الدنيا» (٢) قال مقاتل : (لو لا ما قضى الله من تعميرهم فيها ، وخلودهم ؛ لماتوا حسرة حين رأوا ذلك). (وَهُمْ) فى
__________________
(١) الآية ١١٦ من سورة المائدة.
(٢) أخرجه البخاري فى (التفسير ، باب : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ)). ومسلم فى (الجنة وصفة نعيمها ، باب : النار يدخلها الجبارون) ، من حديث أبى سعيد الخدري ـ رضى الله عنه ـ.