(إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) ، هذا استئناف ؛ لبيان خشيتهم من الله تعالى وإخباتهم له ، مع مالهم من علو الرتبة وسمو الطبقة فى شرف النسب ، وكمال النفس والزلفى من الله عزوجل ، أي : إذا تتلى عليهم ، آيات الرحمن ، إما عند نزولها عليهم ، أو بسماعها من غيرهم ، لحديث : «أحب أن أسمعه من غيرى». ثم بكى صلىاللهعليهوسلم عند قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (١) فكان الأنبياء عليهمالسلام مثله ، إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا ساجدين وباكين. عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «اتلوا القرآن وابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا» (٢). وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ سورة مريم ، فسجد فيها ، فقال : (هذا السجود ، فأين البكاء)؟
قال بعضهم : ينبغى أن يدعو الساجد فى سجوده بما يليق بآيتها ، فهاهنا يقول : اللهم اجعلنى من عبادك المنعم عليهم ، المهديين الساجدين لك ، الباكين عند تلاوة آياتك. وفى الإسراء يقول : اللهم اجعلنى من الخاضعين لوجهك ، المسبحين بحمدك ، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك ، وهكذا. والذي ورد فى الخبر : يقول : «سجد وجهى للذى خلقه وصوّره ، وشقّ سمعه وبصره ، بحوله وقوته ، اللهم اكتب لى بها أجرا ، وضع عنى بها وزرا ، واجعلها لى عندك ذخرا ، وتقبلها منى كما تقبلتها من عبدك داود عليهالسلام». والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد أثنى الله تعالى على هؤلاء السادات المنعم عليهم بكونهم إذا سمعوا كلام الحبيب خضعوا ورقّت قلوبهم ، وهو أول درجة المحبة ، وفوقه الفرح بكلام الحبيب من مكان قريب ، وفوقه الفرح بشهود المتكلم ، وهنا ينقطع البكاء ؛ لدخول صاحب هذا المقام جنة المعارف ، وليس فى الجنة بكاء.
وأيضا : من شأن القلب فى أول أمره الرطوبة ، يتأثر بالواردات والأحوال ، فإذا استمر عليها اشتد وصلب بحيث لا يؤثر فيه شىء من الواردات الإلهية. وفى هذا المعنى قال أبو بكر رضي الله عنه ، حين رأى قوما يبكون عند سماع القرآن : (كذلك كنا ثم قست القلوب) (٣) ، فعبّر عن تمكنه بالقسوة ، تواضعا واستتارا ، وإنما أثنى على هؤلاء السادات بهذه الخصلة ؛ لأنها سلّم لما فوقها. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) الآية ٤١ من سورة النساء ، والحديث : أخرجه البخاري فى (التفسير ـ سورة النساء) ، ومسلم فى (الصلاة ، باب : فضل استماع القرآن) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(٢) الحديث أخرجه بنحوه ابن ماجة فى (إقامة الصلاة ، باب فى حسن الصوت بالقرآن) من حديث سعد بن أبى وقاص.
(٣) قال الحافظ أبو نعيم : «.. عن أبى صالح : لما قدم أهل اليمن ـ زمان أبى بكر ـ وسمعوا القرآن ، جعلوا يبكون ، قال : فقال أبو بكر : [هكذا كنا ، ثم قست القلوب]. قال الشيخ أبو نعيم رحمهالله : «ومعنى قوله : قست القلوب : قويت ، واطمأنت بمعرفة الله تعالى. أ. ه. الحلية ، ج ١ ، ص ٣٣ ـ ٣٤ ويحتمل أن يكون المعنى : أنهم كانوا أرقاء القلوب بمشاهدتهم لحضرة النبي صلىاللهعليهوسلم .. ثم طال الأمد .. فقست القلوب .. وهذا منه تواضع ، رضي الله عنه.