(جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي : إقامة ، لإقامة داخلها فيها على الأبد ، (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) أي : ملتبسين بالغيب عنها لم يروها ، وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار ، أو ملتبسة بالغيب ، أي : غائبة عنهم غير حاضرة. والتعرض لعنوان الرحمانية ؛ للإيذان بأن وعده وإنجازه لكمال سعة رحمته تعالى ، (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) ؛ يأتيه من وعد به لا محالة ، وقيل : هو مفعول بمعنى فاعل ، أي : آتيا لا محالة ، وقيل : مأتيا : منجزا ، من أتى إليه إحسانا ، أي : فعله.
(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) أي : فضول كلام لا طائل تحته ، وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها. وفيه تنبيه على أن اللغو ينبغى للعبد أن يجتنبه فى هذه الدار ما أمكنه. وفى الحديث : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (١). وهو عامّ فى الكلام وغيره. (إِلَّا سَلاماً) ، أي : لا يسمعون لغوا ، لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم ، أو تسليم بعضهم على بعض ، (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي : على قدرهما فى الدنيا ، إذ ليس فى الجنة نهار ولا ليل ، بل ضوء ونور أبدا. قال القرطبي : ليلهم إرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ، أي : ونهارهم رفع الحجب وفتح الأبواب.
قال القشيري : الآية ضرب مثل لما عهد فى الدنيا لأهل اليسار ، والقصد : أنهم أغنياء مياسير فى كل وقت. ه. وسيأتى عند قوله : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ) (٢) كيفية أرزاقهم.
قال تعالى : (تِلْكَ الْجَنَّةُ) : مبتدأ وخبر ، جىء بهذه الجملة ؛ لتعظيم شأن الجنة وتعيين أهلها ، وما فى اسم الإشارة من معنى البعد ؛ للإيذان ببعد منزلتها وعلو رتبتها ، أي : تلك الجنة التي وصفت بتلك الأوصاف العظيمة هى (الَّتِي نُورِثُ) أي : نورثها (مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) لله بطاعته واجتناب معاصيه ، أي : نديمها عليهم بتقواهم ، ونمتعهم بها ، كما يبقى عند الوارث مال مورثه يتمتع به ، والوراثة أقوى ما يستعمل فى التملك والاستحقاق من الألفاظ ؛ من حيث إنها لا يعقبها فسخ ولا استرجاع ولا إبطال. وقيل : يرث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار ، لو آمنوا وأطاعوا ، زيادة فى كرامتهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ...) الآية تنسحب على من كان أسلافه صالحين ، فتنكب عن طريقهم ، فضيّع الدين ، وتكبر على ضعفاء المسلمين ، واتبع الحظوظ والشهوات ، وتعاطى الأمور العلويات ، فإن ضم إلى ذلك الافتخار بأسلافه ، أو بالجاه والمال ، كان أغرق فى الغى والضلال ، يصدق عليه قول القائل :
إن عاهدوك على الإحسان أو وعدوا |
|
خانوا العهود ولكن بعد ما حلفوا |
بل يفخرون بأجداد لهم سلفت |
|
نعم الجدود ، ولكن بئس ما خلّفوا |
__________________
(١) أخرجه الترمذي فى (الزهد باب ١١) ، وابن ماجة فى (الفتن ، باب : كف اللسان فى الفتنة) عن أبى هريرة رضي الله عنه.
(٢) الآية ٧١ من سورة الزخرف.