أمر الدنيا ، (وَما خَلْفَنا) من أمر الآخرة ، (وَما بَيْنَ ذلِكَ) مما بين النفختين ، وهو أربعين سنة. أو ما بين أيدينا بعد الموت ، وما خلفنا قبل أن يخلقنا ، وما بين ذلك مدة حياتنا ، أي : له علم ذلك كله ، (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) : تاركا لك ومهملا شأنك ، أو : ذاهلا عنك حتى ينسى أمر الوحى إليك ؛ لأنه محال ، يعنى : أن عدم نزول جبريل لم يكن إلا لعدم الأمر به ؛ لحكمة بالغة فيه ، ولم يكن تركه تعالى لك إهمالا وتوديعا ، كما زعمت الكفرة. وفى إعادة اسم الرب المضاف إلى ضميره صلىاللهعليهوسلم من تشريفه والإشعار بعلية الحكم ما لا يخفى.
وقوله تعالى : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى ؛ فإن من بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما كيف يتصور أن يحوم حول ساحته الغفلة والنسيان. والفاء فى قوله : (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، من كونه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما. أو من كونه تعالى غير تارك له عليهالسلام ، أو غير ناس لأعمال العاملين ، والمعنى على الأول : فحين عرفته تعالى بما ذكر من الربوبية الكاملة فاعبده ، أو حين عرفته تعالى لا ينساك ، أو : ينسى أعمال العاملين فأقبل على عبادته واصطبر على مشاقها ، ولا تحزن بإبطاء الوحى وهزء الكفرة ، فإنه يراقبك ويلطف بك فى الدنيا والآخرة ، (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي : شبيها ونظيرا ، أو هل تعلم أحدا تسمى بهذا الاسم غير الله تعالى ، والتسمية تقتضى التسوية بين المتشابهين ، ولا مثل له ، لا موجودا ولا موهوما ، مع أن المشركين مع غلوهم فى المكابرة لم يسموا الصنم بالجلالة أصلا ، ولم يتجاسر أحد أن يسمى بهذا الاسم ، ولو تجاسر أحد لهلك.
وقيل : إن أحدا من الجبابرة أراد أن يسمى ولده بهذا الاسم ، فخسف به وبتلك البلدة. ذكره القشيري فى التحبير. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما قاله جبريل عليهالسلام من كونه لا ينزل إلا بأمر ربه ليس خاصا به ؛ بل كل أحد لا حركة له ولا سكون إلا بالله وبمشيئته ، فلا يصدر عن أحد من عبيده قول ولا فعل ، ولا حركة ولا سكون ، إلا وقد سبق فى علمه وقضائه كيف يكون ، فلا انتقال ولا نزول إلا بقدر سابق وتحريك لاحق ؛ «ما من نفس تبديه إلا وله قدر فيك يمضيه». وقال الشاعر :
مشيناها خطى كتبت علينا |
|
ومن كتبت عليه خطى مشاها |
ومن قسمت منيته بأرض |
|
فليس يموت فى أرض سواها |
فراحة الإنسان أن يكون ابن وقته ، كل وقت ينظر ما يفعل الله به ، فبهذا ينجو من التعب ، ويتحقق له الأدب. وبالله التوفيق.
ثم ردّ على من أنكر البعث ، بعد أن ردّ على من اعتقد الشرك ، وبهما كفرت العرب ، فقال :