الشدائد والمكاره ، بجميل الصبر وحسن الثبات ، فيلقاها بصدر فسيح ، وجأش رابط ، وأن يسهل عليه مع ذلك أمره ، الذي هو أجلّ الأمور وأعظمها ، وأصعب الخطوب وأهولها ، بتيسير الأسباب ورفع الموانع. وفى زيادة كلمة (لِي) ، مع انتظام الكلام بدونها ، تأكيد لطلب الشرح والتيسير ؛ بإبهام المشروح والميسّر أولا ، ثم تفسيرهما ثانيا ، وفى تقديمهما وتكريرهما : إظهار مزيد اعتناء بشأن كل من المطلوبين ، وفضل اهتمام باستدعاء حصولهما.
ثم قال : (وَاحْلُلْ) أي : امشط وافسح (عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) ، روى أنه كان فى لسانه رتة من أثر جمرة أدخلها فاه فى صغره. وذلك أنه كان فى حجر فرعون ذات يوم ، فلطمه ونتف لحيته ، فقال فرعون لآسية امرأته : هذا عدو لى ، فقالت آسية : على رسلك ، إنه صبى لا يفرق بين الجمر والياقوت ، ثم جاءت بطستين فى أحدهما الجمر ، وفى الآخر الياقوت ، فأخذ جبريل بيد موسى فوضعها على النار ، حتى رفع جمرة ووضعها على لسانه ، فبقيت له رتة فى لسانه ، واختلف فى زوال العقدة بكمالها ؛ فمن قال به تمسك بقوله تعالى : (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) ، ومن لم يقل به احتج بقول : (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) (١) ، وقوله تعالى : (وَلا يَكادُ يُبِينُ) (٢) وأجاب عن الأول : بأنه لم يسأل حلّ عقدة لسانه بالكلية ، بل حلّ عقدة تمنع الإفهام ، فخفف بعضها لدعائه ، لا جميعها ، ولذلك نكّرها ووصفها بقوله : (مِنْ لِسانِي) أي : عقدة كائنة من عقد لسانى ، (يَفْقَهُوا قَوْلِي) أي : إن تحلل عقدة لسانى يفقهوا قولى.
(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً) أي : معينا ومقويا (مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي) ؛ ليعيننى على تحمل ما كلفتنى به من أعباء التبليغ. (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) أي : قّ به ظهرى ، (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) ؛ واجعله شريكا لى فى أمر الرسالة ، حتى نتعاون على أدائها كما ينبغى ، (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً) ، هو غاية للأدعية الثلاثة الأخيرة ، من قوله : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً ...) إلخ ، ولا شك أن الاجتماع على العبادة والذكر سبب فى دوامهما وتكثيرهما. وفى الحديث : «يد الله مع الجماعة» (٣) ، ولذلك ورد الترغيب فى الاجتماع على الذكر : والجمع فى الصلاة ؛ ليقوى الضعيف بالقوى ، والكسلان بالنشيط ، وقيل : المراد بكثرة التسبيح والذكر ما يكون منها فى تضاعيف أداء الرسالة ودعوة المردة العتاة ، لأنه هو الذي يختلف فى حالتى التعدد والانفراد ، فإن كلّا منهما يصدر منه ، بتأييد الآخر ، من إظهار الحق ، ما لا يصدر منه حال الانفراد. والأول أظهر.
و (كَثِيراً) : وصف لمصدر أو زمن محذوف ، أي : ننزهك عما لا يليق بجلالك وجمالك ، تنزيها كثيرا ، أو زمنا كثيرا ، ومن جملة ذلك : ما يدعيه فرعون الطاغية ، وتقبله منه الفئة الباغية من ادعاء الشرك فى الألوهية.
__________________
(١) من الآية ٣٤ من سورة القصص.
(٢) من الآية ٥٢ من سورة الزخرف.
(٣) أخرجه الترمذي فى (الفتن ، باب ما جاء فى لزوم الجماعة) ، من حديث ابن عباس رضي الله عنه ، وقال الترمذي : حديث حسن.