ثم قال : فأخذت تلك القبضة (فَنَبَذْتُها) فى فم تلك الصورة المذابة من الحلي ، فصارت تخور ، (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) ؛ أي : زينت. والإشارة : نعت لمصدر محذوف ، أي : سوّلت لى نفسى تسويلا كائنا مثل ذلك التسويل البديع.
وحاصل جوابه : أن ما فعله إنما صدر منه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة وإغوائها ، لا لشىء آخر من البرهان العقلي أو الإلهام الإلهى ، فعند ذلك (قالَ) له موسى عليهالسلام : (فَاذْهَبْ) أي : اخرج من بين الناس ، (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ) أي : فى مدة حياتك ، (أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) والمعنى : أن لك فى مدة حياتك أن تفارقهم مفارقة كلية ، لا بحسب الاختيار ، بل بحسب الاضطرار الملجئ إليه ، وذلك أنه تعالى رماه بداء عقام (١) ، لا يكاد يمسّه أحد ، أو يمسّ أحدا ، إلا حمّ من ساعته حمى شديدة ، فتحامى الناس وتحاموه ، وكان يصيح بأقصى طوقه : لا مساس. وقيل : إن موسى عليهالسلام نفاه من قومه ، وأمر بنى إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه. قال الحسن : (جعل الله عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه. جعل ذلك له ولمن كان منه إلى يوم القيامة). فكأن الله تعالى شدّد عليه المحنة ، وجعل ذلك عقوبة له فى الدنيا. ويقال : ابتلى بالوسواس ، وأصل الوسواس من ذلك الوقت. وقال قتادة : بقاياه اليوم يقولون ذلك : لا مساس. ويقال : إن موسى همّ بقتل السامري ، فقال الله تعالى له : لا تقتله ؛ فإنه سخى. ولعل الحكمة فى عقابه بهذه العقوبة : أن مخالطته للناس نشأت من هذه الفتنة ، فعوقب بالطرد والبعد عنهم.
ثم قال له الله : (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً) أي : فى الآخرة ، (لَنْ تُخْلَفَهُ) أي : لن يخلفك الله ذلك الوعد ، بل ينجزه لك البتة ، بعد ما عاقبك فى الدنيا. أو لن تجاوزه ولن تخطئه ، بل لا بد لك من ملاقاته. (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ) العجل ، (الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) ؛ مقيما على عبادته ، (لَنُحَرِّقَنَّهُ) أي : والله لنحرقنه بالنار ، وقيل بالمبرد ، مبالغة فى الحرق ، ويعضده قراءة : (لَنُحَرِّقَنَّهُ) ، (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ) أي : لنذرينه بالريح (فِي الْيَمِ) ؛ فى البحر ، رمادا ، أو مبرودا كأنه هباء ، (نَسْفاً) بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر ، وقد فعل عليهالسلام ذلك كله حينئذ ، كما يشهد بذلك الأمر بالنظر ، وإنما لم يصرح به ؛ تنبيها على كمال ظهوره ، واستحالة الخلف فى وعده المؤكد باليمين.
ثم نبّه على الحق فقال : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ) أي : إنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله. والجملة : استئنافية مسوقة لتحقيق الحق ، إثر إبطال الباطل ، بتلوين الخطاب وتوجيهه إلى الكل ، ثم وصفه بقوله : (الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وحده ، من غير أن يشاركه فى الألوهية شىء من الأشياء ، (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي : وسع علمه كل ما من شأنه أن يعلم. وجملة : (وَسِعَ) : بدل من الصلة ، أي : إنما إلهكم : الذي وسع كل شىء علما لا غيره كائنا
__________________
(١) العقام : الداء الذي لا يبرأ منه.