قال الورتجبي : ونحشره يوم القيامة أعمى ، يعنى : جاهلا بوجود الحق ، كما كان جاهلا فى الدنيا ، كما قال علىّ ـ كرم الله وجهه ـ : من لم يعرف الله فى الدنيا لا يعرفه فى الآخرة. وقيل : عن رؤية أوليائه وأصفيائه. ه. وقال القشيري : فى الخبر : «من كان بحالة لقى الله بها» (١). فمن كان فى الدنيا أعمى القلب ، يحشر على حالته ، يعيش على ما جهل ، ويحشر على ما جهل ، ولذلك يقولون : (من بعثنا من مرقدنا)؟ إلى أن تصير معارفهم ضرورية ، كما يتركون التدبّر فى آياته يتركون غدا فى العقوبة من غير رحمة على ضعف حالاتهم. ه.
وكذلك نجزى من أسرف بالعكوف على شهواته ، واغتنام أوقات لذاته ، حتى انقضت أيام عمره فى البطالة ، نجزيه غم الحجاب والبعد عن حضرة الأحباب ، حيث لم يصدق بوجود آيات ربه ؛ وهم الدعاة إلى الله. ولعذاب حجاب الآخرة أشد وأبقى ؛ لدوامه واتصاله ، نعوذ بالله من غم الحجاب وسوء الحساب ، والتخلف عن حضرة الأحباب. وبالله التوفيق.
ثم حضّ على الاعتبار فى هذه الدار ، فقال :
(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠))
قلت : (أَفَلَمْ) : الهمزة للإنكار التوبيخي ، والفاء للعطف على محذوف ، أي : أغفلوا فلم يهد لهم. وعدي الهداية باللام لتضمنها معنى التبيين ، والفاعل مضمون (كَمْ أَهْلَكْنا) ، أي : أفلم يبين لهم مآل أمرهم كثرة إهلاكنا للقرون الأولى؟ وقيل : الفاعل ضمير عائد إلى الله. و (كَمْ ..) إلخ : معلق للفعل سد مسد مفعوله. أي : أفلم يبين الله لهم كثرة إهلاك القرون من قبلهم؟ والأوجه : أن لا يلاحظ له مفعول ، كأنه قيل : أفلم يفعل الله لهم الهداية ، ثم قيل بطريق الالتفات : كم أهلكنا .. إلخ ؛ بيانا لتلك الهداية. و (مِنَ الْقُرُونِ) : فى محل نصب ، نعت لمفعول محذوف ، أي : قرنا كائنا من القرون.
__________________
(١) يؤيد هذا قوله ـ صلىاللهعليهوسلم : «من مات على شىء بعثه الله عليه». أخرجه أحمد فى المسند (٣ / ٣١٤) ، والحاكم فى المستدرك (٤ / ٣١٢) من حديث جابر رضي الله عنه.