يقول الحق جل جلاله لنبيه صلىاللهعليهوسلم : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أي : لا تطل نظرهما ، بطريق الرغبة والميل (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) من زخارف الدنيا (أَزْواجاً مِنْهُمْ) أي : أصنافا من الكفرة ، والمعنى : لا تنظر إلى ما أعطيناه أصناف الكفرة من زخارف الدنيا الغرارة ، ولا تستحسن ذلك ، فإنه فان ، وهو من (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : بهجتها ، ثم يفنى ويبيد ، كشأن الزهر ، فإنه فائق المنظر ، سريع الذبول والذهاب.
متعناهم بذلك ، وأعطيناهم الأموال والعز فى الدنيا ؛ (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي : لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم ، هل يقومون بشكره فيؤمنوا بك ، ويصرفوه فى الجهاد معك ، وينفقوه على من آمن معك .. أم لا؟ أو لنعذبهم فى الآخرة بسببه ، فلا تهتم بذلك. (وَرِزْقُ رَبِّكَ) أي : ما ادخر لك فى الآخرة (خَيْرٌ) ، أو : ورزقك فى الدنيا من الكفاف مع الهدى ، خير مما منحهم فى الدنيا ، لأنه مأمون الغائلة ؛ بخلاف ما منحوه ، فعاقبته الحساب والعقاب. (وَأَبْقى) ؛ فإنه لا ينقطع نفسه أو أثره ، بخلاف زهرة الدنيا ، فإنها فانية منقطعة.
فالواجب : الاشتغال بما يدوم ثوابه ، ولذلك قال له صلىاللهعليهوسلم : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) ، أمره بأن يأمر أهل بيته ، أو التابعين له من أمته ، بالصلاة ، بعد ما أمر هو بقوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) على ما مر ؛ ليتعاونوا على الاستعانة على الخصاصة ، ولا يهتموا بأمر المعيشة ، ولا يلتفتوا لغنى أرباب الثروة. (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) ؛ وتكلف الصبر على مداومتها ، غير ملتفت لأمر المعاش ، (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) أي : لا نكلفك أن ترزق نفسك ولا أهلك ، (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) وإياهم ، ففرغ قلبك لمشاهدة أسرارنا ، (وَالْعاقِبَةُ) المحمودة (لِلتَّقْوى) أي : لأهل التقوى. روى أنه صلىاللهعليهوسلم كان إذا أصاب أهله ضر أو خصاصة أمرهم بالصّلاة ، وتلا هذه الآية (١). والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما خوطب به نبينا صلىاللهعليهوسلم خوطب به خاصة أمته ، فلا تمدن عينيك ، أيها الفقير ، إلى ما متع به أهل الدنيا ، من زهرتها وبهجتها ، بل ارفع همتك عن النظر إليها ، واستنكف عن استحسان ما شيدوا وزخرفوا ، فإن ذلك حمق وغرور. كان عروة بن الزبير رضي الله عنه إذا رأى أبناء السلاطين وشاراتهم دخل داره وتلا : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) ... الآية. وكان يحيى بن معاذ الرازي يقول لعلماء زمانه : يا علماء السوء ؛ دياركم هامانية ، ومراكبكم قارونية ، وملابسكم فرعونية ، فأين السنة المحمدية؟.
ولا تشتغل بطلب رزق ، فرزق ربك ـ وهو ما يبرز لك فى وقتك من عين المنة ، من غير سبب ولا خدمة ـ خير وأبقى ، أما كونه خيرا ؛ فلما يصحبه من اليقين والفرح بالله وزيادة المعرفة ، وأما كونه أبقى ؛ لأن خزائنه لا تنفد ،
__________________
(١) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (باب فى الصبر ، ح ٩٧٠٥) ، وأبو نعيم فى الحلية (٨ / ١٧٦) من حديث عبد الله بن سلام. وعزاه الهيثمي فى مجمع الزوائد (٧ / ٦٧) للطبرانى فى الأوسط ، من حديث ابن سلام ، وقال : رجاله ثقات.