الإشارة : ثبوت الخصوصية لا ينافى وصف البشرية ، فنسبة أهل الخصوصية من البشر كاليواقيت بين الحجر. ولا فرق بين خصوصية النبوة والولاية فى الاتصاف بأوصاف البشرية ، التي لا تؤدى إلى نقص فى مراتبهم العلية. وتتميز خصوصية النبوة من الولاية بوحي الأحكام ، وتتميز خصوصية الولاية من العمومية بالتطهير من الرذائل والتحلي بالفضائل ، وبالغيبة عن رؤية الأكوان ، بإشراق شمس العرفان ، وذلك بالفناء عن الأثر بشهود المؤثر ، ثم بالبقاء بشهود الأثر ؛ حكمة ، مع الغيبة عنه ، قدرة ، ولا يعرف هذا إلا أهل الذكر الحقيقي ، فلا يعرف مقام الأولياء إلا من دخل معهم ، ولا يسأل عنهم إلا أمثالهم ؛ (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). فلا يشترط فى الولي استغناؤه عن الطعام والشراب ؛ إذ لم يكن للأنبياء ، فكيف بالأولياء؟ ولا استغناؤه عن النساء ، قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) (١) ، نعم ؛ صاحب الخصوصية مالك لنفسه من غلبة الشهوة عليه ، ينزل إلى أرض الحظوظ بالإذن والتمكين ، والرسوخ فى اليقين. جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه. وتقدم الكلام على قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) فى سورة النحل (٢). وبالله التوفيق.
ثم بيّن ما أجمل فى قوله : (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) ، فقال :
(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥))
قلت : كم : خبرية مفيدة للتكثير ، ومحلها نصب ، مفعول بقصمنا ، و (مِنْ قَرْيَةٍ) : تمييز ، و (كانَتْ ..) إلخ : صفة لقرية.
يقول الحق جل جلاله : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) أي : كثيرا أهلكنا من أهل قرية (كانَتْ ظالِمَةً) بآيات الله تعالى ، كافرين بها. وفى لفظ القصم ـ الذي هو عبارة عن الكسر ؛ بإبانة أجزاء المكسور وإزالتها بالكلية ـ من الدلالة على قوة الغضب والسخط ما لا يخفى. (وَأَنْشَأْنا) أي : أحدثنا (بَعْدَها) أي : بعد إهلاكها (قَوْماً آخَرِينَ) ليسوا منهم نسبا ولا دينا ، ففيه تنبيه على استئصالهم وقطع دابرهم بالكلية. (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) أي : أدركوا عذابنا الشديد إدراك المشاهد المحسوس (إِذا هُمْ مِنْها) أي : من القرية (يَرْكُضُونَ) : يهربون مدبرين راكضين دوابهم. فقيل لهم ، بلسان الحال أو المقال من الملك ، أو ممن حضرهم من المؤمنين ،
__________________
(١) من الآية ٣٨ من سورة الرعد.
(٢) الآية ٤٣ من سورة النحل.