ولمّا برهن على وحدانيته تعالى فى ملكه بأنه تعالى خلق جميع المخلوقات على منهاج الحكمة ، وأنهم قاطبة تحت ملكه وقهره ، وأنّ عباده مذعنون لطاعته ، ومثابرون على عبادته ، ومنزهون له عن كل ما لا يليق بشأنه ، أنكر على من أشرك معه بعد هذا البيان ، فقال : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً) يعبدونها (مِنَ الْأَرْضِ) أي : اتخذوها من جنس الأرض ، أحجارا وخشبا ، (هُمْ يُنْشِرُونَ) أي : يبعثون الموتى. وهذا هو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل والتشنيع ، لا نفس الاتخاذ ، فإنه واقع لا محالة ، أي : بل اتخذوا آلهة من الأرض ، هم مع حقارتهم ، ينشرون الموتى ، كلا .. فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل من ذلك ، وهم ، وإن لم يقولوا بذلك صريحا ، لكنهم حيث ادعوا لها الألوهية ، فكأنهم ادعوا لها الإنشار ، ضرورة ؛ لأنه من خصائص الإلهية ، ومعنى التخصيص فى تقديم الضمير فى : (هُمْ يُنْشِرُونَ) : التنبيه على كمال مباينة حالهم للإنشار ، الموجبة لمزيد الإنكار ، كما فى قوله تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌ) (١). وفى قوله تعالى : (أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) (٢) ، فإنّ تقديم الجار والمجرور ؛ للتنبيه على كمال مباينة أمره تعالى لأن يشك فيه ويستهزأ به.
ثم أبطل الاشتراك فى الألوهية ، فقال : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) أي : لو كان فى السماوات والأرض آلهة غير الله ، كما هو اعتقادهم الباطل ، (لَفَسَدَتا) أي : لفسد نظامهما بما فيهما ، لوجود التمانع ، كعادة الملوك ، أو لبطلتا بما فيهما ، ولم يوجد شىء منهما ؛ للزوم العجز لهما ، بيان ذلك : أن الألوهية مستلزمة للقدرة على الاستبداد بالتصرف فيهما على الإطلاق ، تغييرا وبديلا ، وإيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة ، فبقاؤهما على ما هما عليه من غير فساد ، إما بتأثير كل منها ، وهو محال ؛ لاستحالة وقوع الأثر الواحد بين مؤثرين ، وإما بتأثير واحد منها ، فالباقى بمعزل عن الإلهية ، والمسألة مقررة فى علم الكلام.
و (إِلَّا) : صفة لآلهة ، كما يوصف بغير ، ولمّا كانت حرفا ، ظهر إعرابها فى اسم الجلالة ، ولا يصح رفعه على البدل ؛ لعدم وجود النفي. ثم قال تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ) أي : فسبحوا سبحان الله اللائق به ، ونزهوه عما لا يليق به من الأمور ، التي من جملتها : أن يكون له شريك فى الألوهية. وإيراد الجلالة فى موضع الإضمار ، حيث لم يقل فسبحانه ؛ للإشعار بعلية الحكم ، فإنّ الألوهية مناط لجميع صفات كماله ، التي من جملتها : تنزهه تعالى عما لا يليق به ، ولتربية المهابة وإدخال الروعة. ثم وصفه بقوله : (رَبِّ الْعَرْشِ) ، وخصه بالذكر ، مع كونه رب كل شىء ؛ لعظم شأنه ؛ لأنّ الأكوان فى جوفه كلا شىء ، أي : تنزيها له عما يصفونه عن أن يكون من دونه آلهة.
ثم بيّن قوة عظمته وعز سلطانه القاهر ، فقال : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) أي : لا يمكن لأحد من مخلوقاته أن يناقشه أو يسأله عما يفعل ؛ هيبة وإجلالا ، (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) أي : وعباده يسألون عما يفعلون ، نقيرا وقطميرا ؛ لأنهم مملوكون له تعالى ، مستعبدون ، ففيه وعيد للكفرة ، فالآية تتميم لقوله : (لاعِبِينَ) ، بل خلقنا الأشياء كلها
__________________
(١) من الآية ١٠ من سورة إبراهيم.
(٢) من الآية ٦٥ من سورة التوبة.