ما ذكر قبل من صفاتهم السنية وأفعالهم المرضية ؛ لأنه فرض تقدير ، وفيه من الدلالة على قوة ملكوته تعالى ، وعزة جبروته ، واستحالة كون الملائكة بحيث يتوهم فى حقهم ما توهمه أولئك الكفرة ، ما لا يخفى ، (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزى الظالمين ، الذين يضعون الأشياء فى غير مواضعها ، ويتعدون أطوارهم.
قال الكواشي : هذا القول وارد على سبيل التهديد والوعيد الشديد على ارتكاب الشرك ، كقوله : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١). ه. فالقصد : تفظيع أمر الشرك ، وأنه لو صدر ممن صدر لأحبط عمله ، وكان جزاء صاحبه جهنم ، ومثل ذلك الجزاء نجزى الظالمين ، وهم الكافرون ، والحاصل : أنه على سبيل الفرض ، مع علمه تعالى أنه لا يكون من الملائكة ، فهو من إخباره عما لا يكون كيف يكون ؛ لعلمه بما لا يكون ، مما جاز أن يكون ، كيف يكون. ه. من الحاشية الفاسية ببعض اختصار.
فالكاف من (كَذلِكَ) : فى محل مصدر تشبيهى ، مؤكد لمضمون ما قبله. والقصر ، المستفاد من التقديم للمصدر ، معتبر بالنسبة إلى النقصان دون الزيادة ، أي : لا جزاء أنقص منه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : أنوار الملكوت متدفقة من بحر أسرار الجبروت ، من غير تفريع ، ولا تولد ، ولا علاج ، ولا امتزاج ، بل : كن فيكون ، لكن حكمته تعالى اقتضت ترتيب الأشياء وتفريع بعضها من بعض ، ليبقى السر مصونا والكنز مدفونا. فأسرار الذات العلية منزهة عن اتخاذ الصاحبة والولد ، بل القدرة تبرز الأشياء بلا علاج ولا أسباب ، والحكمة تسترها بوجود العلاج والأسباب. فكل ما ظهر فى عالم التكوين قد عمّته قهرية العبودية ، وانتفت عنه نسبة البنوة لأسرار الربوبية ، فأهل الملأ الأعلى عباد مكرمون ، مقدّسون من دنس الحس ، مستغرقون فى هيمان القرب والأنس ، وأهل الملأ الأسفل مختلفون ، فمن غلب عقله على شهوته ، ومعناه على حسه ، وروحانيته على بشريته ، فهو كالملائكة أو أفضل. ومن غلبت شهوته على عقله ، وحسه على معناه ، وبشريته على روحانيته ، كان كالبهائم أو أضل. ومن التحق بالملأ الأعلى ، من الأولياء المقربين ، انسحب عليه ما مدحهم به تعالى من قوله : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) ، ومن قوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) ، بأن يدبروا معه شيئا قبل ظهور تدبيره ، وهم بطاعته يعملون ، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ، وهم من خشية هيبته مشفقون ، (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) ؛ بأن يدعى شيئا من أوصاف الربوبية ، كالكبرياء ، والعظمة على عباده ، فذلك نجزيه جهنم ، وهى نار القطيعة ، كذلك نجزى الظالمين. وفى الحكم : «منعك أن تدعى ما ليس لك مما للمخلوقين ، أفيبيح لك أن تدعى وصفه وهو رب العالمين»؟.
__________________
(١) من الآية ٨٨ من سورة الأنعام.