يقول الحق جل جلاله لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) أي : البقاء الدائم ؛ لكونه مخالفا للحكمة التكوينية والتشريعية ، (أَفَإِنْ مِتَ) بمقتضى حكمتنا (فَهُمُ الْخالِدُونَ) بعدك؟ نزلت حين قالوا : نتربص به رب المنون ، فنفى عنه الشماتة بموته ، فإن الشماتة بالموت مما لا ينبغى أن يصدر من عاقل ، أي : قضى الله ألا يخلد فى الدنيا بشرا ، فإن متّ ـ يا محمد ـ أيبقى هؤلاء الكفرة؟ كلا ؛ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي : ذائقة مرارة مفارقتها جسدها ، فتستوى أنت وهم فيها ، فلا تتصور الشماتة بأمر عام.
(وَنَبْلُوكُمْ) ، الخطاب : إما للناس كافة بطريق التلوين ، أو للكفرة بطريق الالتفات ، وسمى ابتلاء ، وإن كان عالما بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم ؛ لأنه فى صورة الاختبار ، أي : نختبركم (بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) ، أي : بالفقر والغنى ، أو بالضر والنفع ، أو بالعطاء والمنع ، أو بالذل والعز ، أو بالبلاء والعافية ، (فِتْنَةً) ؛ اختبارا ، هل تصبرون وتشكرون ، أو تجزعون وتكفرون. و (فِتْنَةً) : مصدر مؤكد «ل (نَبْلُوكُمْ») ، من غير لفظه. (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) لا إلى غيرنا ، فنجازيكم على حسب ما يؤخذ منكم ؛ من الصبر والشكر ، أو الجزع والكفران. وفيه إيماء إلى أن المقصود من هذه الدنيا : الابتلاء والتعرض للثواب والعقاب. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لا بد لهذا الوجود بما فيه أن تنهد دعائمه ، وتسلب كرائمه ، ولا بد من الانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء ، ومن دار التعب إلى دار الهناء ، ومن دار العمل إلى دار الجزاء. فالعاقل من أعرض بكليته عن هذه الدار ، وصرف وجهته إلى دار القرار ، فاشتغل بالتزود للرحيل ، وبالتأهب للمسير ، فلا مطمع للخلود فى هذه الدار ، وقد رحل منها الأنبياء والصالحون والأبرار ، وتأمل قول الشاعر :
صبرا فى مجال الموت صبرا |
|
فما نيل الخلود بمستطاع |
وقوله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) ، اعلم أن تخالف الآثار وتنقلات الأطوار على العبد من أفضل المنن عليه ، إن صحبته اليقظة ، فيرجع إلى الله تعالى فى كل حال تنزل به ، إن أصابته ضراء رجع إلى الله بالصبر والرضا ، وإن أصابته سواء رجع إليه بالحمد والشكر ، فيكون دائما فى السير والترقي ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي : بهما. فالرجوع إلى الله فى السراء والضراء من أركان الطريق ، والرجوع إلى الله فى الضراء بالصبر والرضا ، وفى السراء بالحمد والشكر ، ورؤية ذلك من الله بلا واسطة. وفى الحديث عنه صلىاللهعليهوسلم : «من ابتلى فصبر ، وأعطى فشكر ، وظلم فغفر أو ظلم فاستغفر» ، ثم سكت ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقالوا : ماله يا رسول الله؟ قال : «أولئك لهم الأمن وهم مهتدون» (١). وقال صلىاللهعليهوسلم : «عجبا لأمر المؤمن ، إنّ أمره كلّه خير ، وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن ، إن أصابته سرّاء شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضرّاء صبر ، فكان خيرا له» (٢).
__________________
(١) عزاه فى الجامع الصغير (ح ٨٢٨١) ، للطبرانى والبيهقي ، عن سخبرة ، وحسّنه.
(٢) أخرجه مسلم فى (الزهد ، باب : المؤمن أمره كله خير) ، عن صهيب رضي الله عنه.