روى أن جبريل عليهالسلام اقتلع المدينة بجناحيه ورفعها ، حتى سمعت الملائكة صراخ الديكة ونباح الكلاب ، ثم قلبها وأرسل الكل ، فمن كان داخل المدينة أو القرى مات ، ومن كان خارجا عنها أرسلت عليه الحجارة ، كما قال تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) : من طين متحجر مطبوخ بالنار. وقد تقدم فى سورة هود (١) مزيد بيان لهذا. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) : المتفكرين المعتبرين المتفرسين فى الأمور ، الذين يتثبتون فى نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيء بسمته ، (وَإِنَّها) أي : المدينة أو القرى ، (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) : لفى طريق ثابت يسلكه الناس ، ويمرون به ، ويرون آثارها. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) : لعبرة (لِلْمُؤْمِنِينَ) بالله ورسله ؛ فإنهم هم المهتدون للتفكر والاعتبار ، دون من غلبت عليه الغفلة والاغترار ، كحال الكفار والفجار. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما بعث الله داعيا يدعو إليه إلا وكان أول ما يدعوهم إليه ، بعد الإيمان ، الخروج من العوائد والحظوظ النفسانية ، وما هلك من هلك من الأمم إلا بالبقاء معها ، وعدم الخروج عنها ، وما نجى من نجى إلا بالخروج عنها. وكذلك فى طريق الخصوصية : ما بعث الله وليا مربيا إلا وكان أول ما يأمر : بخرق ، العوائد ؛ لاكتساب الفوائد ، فلا طريق لخصوصية الولاية إلا منها. وفى الحكم : «كيف تخرق لك العوائد ، وأنت لم تخرق من نفسك العوائد». فمن تربى فى الرئاسة والجاه فلا مطمع له فى الخصوصية حتى يبدلهما بالخمول والذل ، وكذلك من تعود جمع الدنيا واحتكارها ، فلا بد من الزهد فيها والخروج عنها ، وكذلك سائر العوائد النفسانية ، والحظوظ الجسمانية ، فمن جاور قوما منهمكين فيها ، ولم يجد من يساعده على خرقها ، فليهاجر منها ، ويقال له : فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ، ولا يلتفت منكم أحد إلى الرجوع ، إلا بعد الرسوخ والتمكين فى معرفة الحق تعالى ، وليمض حيث يجد من ينهض معه إلى الله فى نقل عوائدها وعوائقها.
وقوله تعالى : (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) : هذه عادة أهل الغفلة ، إن جاءهم من يجدون فيه موافقة هواهم ، هرعوا إليه مستبشرين ، وإن جاء من ينصحهم ويأمرهم بالخروج عن أهوائهم أدبروا عنه ، ومقتوه ، وربما أخرجوه من بلدهم ، قال تعالى فى أمثالهم : (لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون). وبالله التوفيق.
ثم ذكر قصة شعيب عليهالسلام ، فقال :
(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩))
قلت : «إن» : مخففة ، واللام فارقة.
يقول الحق جل جلاله : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) ، وهم قوم شعيب ، كانوا يسكنون غيضة ، وهى الأيكة. والأيكة : الشجر الملتف ، قيل : كانت من الدوح ، وقيل : من السدر ، فكانوا يسكنون فيها ، ويرتفقون بها
__________________
(١) راجع تفسير الآيات ٨١ ـ ٨٣.