يمكن أن نستفيد من مجموع القرائن الموجودة في الآية أنّ المستفسرين سألوا عن حقيقة الروح الإنسانية ، هذه الروح العظيمة التي تميّز الإنسان عن الحيوان ، وقد شرّفتنا بأفضل الشرف ، حيث تنبع كل نشاطاتنا وفعالياتنا منها ، وبمساعدتها نكتشف أسرار العلوم.
ولأنّ الروح لها بناء يختلف عن بناء المادة ، ولها اصول تحكمها تختلف عن الاصول التي تحكم المادة في خواصها الفيزيائية والكيميائية ، لذا فقد صدر الأمر إلى الرسول صلىاللهعليهوآله أن يقول لهؤلاء في جملة قصيرة قاطعة : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى). ولكي لا يتعجب هؤلاء أو يندهشوا من هذا الجواب فقد أضافت الآية : (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً). حيث لا مجال للعجب بسبب عدم معرفتكم بأسرار الروح بالرغم من أنّها أقرب شيء إليكم.
وفي تفسير العياشي عن زرارة عن الإمام الباقر والصادق عليهماالسلام عن قوله تعالى (يَسَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) قالا : «إنّ الله تبارك وتعالى أحد صمد ، والصمد الشيء الذي ليس له جوف ، فإنّما الروح خلق من خلقه ، له بصر وقوّة وتأييد يجعله في قلوب الرسل والمؤمنين».
إنّ الروح الإنسانية لها مراتب ودرجات ، فتلك المرتبة من الروح الموجودة عند الأنبياء والأئمة عليهمالسلام ، هي في مرتبة ودرجة عالية جدّاً ، ومن آثارها العصمة من الخطأ والذنب وكذلك يترتب عليها العلم الخارق. وبالطبع فإنّ روحاً مثل هذه هي أفضل من الملائكة بما في ذلك جبرئيل وميكائيل. (فتدبر)
(وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً (٨٦) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) (٨٧)
ما عندك هو من رحمته وبركته : تحدثت الآيات السابقة عن القرآن ، أمّا الآيتان اللتان نبحثهما الآن فهما أيضاً ينصبّان في نفس الإتجاه. ففي البداية تقول الآية : (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ). وبعد ذلك : (ثُمَّ لَاتَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً). إنّنا نحن الذين أعطيناك هذه العلوم حتى تكون قائداً وهادياً للناس ، ونحن الذين إذا شئنا استرجعناها منك ، وليس لأحد أن يعترض على ذلك.
الآية التي بعدها جاءت لتستثني ، فهي تبيّن أنّنا إذا لم نأخذ ما أعطيناك ، فليس ذلك سوى رحمة من عندنا ، حيث يقول تعالى : (إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبّكَ). وهذه الرحمة لأجل هدايتك وإنقاذك ، وكذلك لهداية وإنقاذ العالم البشري ، وهذه الرحمة مكمّلة لرحمة الخلق.