(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (٤١)
الربّ الرحيم يشير الله سبحانه في هذه الآيات إلى فصل آخر من فصول حياة موسى عليهالسلام ، والذي يرتبط بمرحلة الطفولة ونجاته من قبضة الفراعنة. وهذا الفصل وإن كان من ناحية التسلسل التاريخي قبل فصل الرسالة والنبوّة ، إلّاأنّه ذكر كشاهد على شمول عناية الله عزوجل لموسى عليهالسلام من بداية عمره ، وهي في الدرجة الثانية من الأهمية بالنسبة إلى الرسالة ، فيقول أوّلاً : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى) (١).
وبعد ذكر هذا الإجمال تتطرق الآيات إلى الشرح والتفصيل ، فتقول : (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمّكَ مَا يُوحَى).
وهو إشارة إلى أنّنا قد علّمنا امّه كل الطرق التي تنتهي إلى نجاة موسى عليهالسلام من قبضة الفراعنة ، لأنّه يستفاد من سائر آيات القرآن أنّ فرعون شدّد ارهابه على بني إسرائيل للتصدّي لقوّتهم وعصيانهم المحتمل ، أو أنّه كان قد أمر بقتل أبنائهم وإبقاء البنات للخدمة ، لكي يمنع ولادة ولد من بني إسرائيل كان قد أخبره المنجّمون أنّه يثور عليه ويزيل ملكه.
إنّ هذه الام أحسّت بأنّ حياة وليدها في خطر ، وإخفاؤه مؤقتاً سوف لا يحلّ المشكلة ...
في هذه الأثناء ألهمها الله ـ الذي رشّح هذا الطفل لثورة كبيرة ؛ فألقى في قلب الامّ : (أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمّ). «اليم» : هنا يعني نهر النيل العظيم الذي يطلق عليه
__________________
(١) «المنة» : في الأصل من المن ، وهو يعني الأحجار الكبيرة التي كانوا يزنون بها ، ولذلك فإنّ كل نعمة كبيرة ونفيسة يقال عنها : إنّها منّة. والمراد في الآية هو هذا المعنى ، وهذا المعنى مفهوم جميل وايجابي للمنّة ، إلّاأنّ الإنسان إذا عظّم عمله الصغير بكلامه ، وذكّر الطرف الآخر به ، فإنّه مصداق حي للمنّة السلبية المذمومة.