لقد أصدرت في هذه الآيات أوامر وتوجيهات للنبي صلىاللهعليهوآله ، والمراد منها والمخاطب فيها عموم المسلمين ، وهي تتمة للبحث الذي قرأناه آنفاً حول الصبر والتحمل. فتقول أوّلاً : (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ). فإنّ هذه النعم المتزلزلة الزائلة ما هي إلّا (زَهْرَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا).
في الوقت الذي أمددناهم بها (لِنَفْتِنَهُم فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى). فإنّ الله سبحانه وهب لك مواهب ونعماً متنوّعة ، فأعطاك الإيمان والإسلام ، والقرآن والآيات الإلهية والرزق الحلال الطاهر ، وأخيراً نعم الآخرة الخالدة ، هذه الهبات والعطايا المستمرة الدائمة.
وتقول الآية التالية تلطيفاً لنفس النبي صلىاللهعليهوآله وتقوية لروحه : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَوةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) لأنّ هذه الصلاة بالنسبة لك ولأهلك أساس العفّة والطهارة وصفاء القلب وسموّ الروح ودوام ذكر الله.
إنّ هذه السورة لمّا كانت قد نزلت في مكة ، فإنّ مصداق الأهل في ذلك الزمان كان (خديجة وعلياً عليهماالسلام) إلّاأنّ مصطلح أهل بيت النبي صلىاللهعليهوآله أصبح واسع الدلالة بمرور الزمن.
ثم تضيف بأنّه إذا كان قد صدر الأمر لك ولأهلك بالصلاة فإنّ نفعها وبركاتها إنّما يعود كل ذلك عليكم ، فإنّا (لَانَسَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ) فإنّ هذه الصلاة لا تزيد شيئاً من عظمة الله ، بل هي رأس مال عظيم لتكامل البشر وإرتقائهم ودرس تعليمي وتربوي عال.
وتضيف الآية في النهاية : (وَالْعقِبَةُ لِلتَّقْوَى). فإنّ ما يبقى ويفيد في نهاية الأمر هو التقوى ، والمتقون هم الفائزون في النهاية ، أمّا الذين لا تقوى لهم فهم محكومون بالهزيمة والإنكسار.
ثم أشارت الآية التالية إلى واحدة من حجج الكفار الواهية فقالت : (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بَايَةٍ مّن رَّبّهِ) واجابتهم مباشرة : (أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الْأُولَى). حيث كانوا يشكّكون ويطلبون الأعذار بصورة متلاحقة من أجل الإتيان بالمعجزات ، وبعد رؤية ومشاهدة تلك المعاجز إستمرّوا في كفرهم وإنكارهم ، فحاق بهم العذاب الإلهي ، أفلا يعلمون بأنّهم إذا ساروا في نفس الطريق فسينتظرهم المصير نفسه.
إنّ هؤلاء المتذّرعين ليسوا اناساً طلّاب حق ، بل إنّهم دائماً في صدد إيجاد أعذار وتبريرات جديدة ، فحتّى (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنهُم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَءَايتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى) إلّاأنّهم الآن وقد جاءهم هذا النبي الكريم بهذا الكتاب العظيم ، يقولون كل يوم كلاماً ، ويختلقون الأعذار للفرار من الحق.