فالله تعالى يواصل هذه الرحمة والنعمة والعقوبات ، والمشركون يواصلون طغيانهم وعنادهم : (حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (١).
الواقع ، أنّ نوعين من العقاب الإلهي : أوّلهما «عقاب الإبتلاء» ، وثانيهما «عقاب الإستيصال» والإقتلاع من الجذور ، والهدف من العقاب الأوّل وضع الناس في صعوبات وآلام ليدركوا مدى ضعفهم وليتركوا مركب الغرور.
أمّا هدف العقاب الثاني الذي ينزل بالمعاندين المستكبرين فهو إزالتهم عن مجرى الحياة ، وتطهيرها من عراقيلهم.
ثم تناول القرآن المجيد القضية من باب آخر ، فعدّد النعم الإلهية لدفع الناس إلى الشكر : (وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصرَ وَالْأَفِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ).
والتأكيد على (الاذن والعين والعقل) لأنّها الأجهزة التي بها يتعرف الإنسان على المحسوسات والقضايا ، فالأشياء الحسيّة يبلغها بالعين والاذن ، والقضايا غير الحسية يدركها بالعقل.
وتناولت الآية اللاحقة خلق الله سبحانه للإنسان من التراب ، فتقول : (وَهُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الْأَرْضِ) (٢).
وبما أنّه ـ جلّ إسمه ـ خلقكم من الأرض ، لذلك ستعودون إليها مرّة ثانية ، ثم يبعثكم : (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
ولو فكّرتم في خلقكم من تراب لا قيمة له ، لدلّكم على خالق الوجود سبحانه ، وعرّفكم على كريم لطفه بكم وإحسانه إليكم ، وقادكم إلى الإيمان به وبالمعاد.
وبعد ذكر خلق الإنسان ، تناولت الآية المذكورة آنفاً دلائل اخرى من بديع صنع الله تعالى (وَهُوَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلفُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ).
وبهذا الترتيب بدأ البيان القرآني من الدافع لإستيقاظ القلب وإنبعاثه على معرفة ربّه سبحانه وإنتهى بذكر بعض أهمّ الآيات الأنفسية والآفاقية.
__________________
(١) «المبلس» : كلمة مشتقة من «الإبلاس» بمعنى الألم الشديد الناتج عن شدّة أثر الحادثة ، وتدفع بالإنسان إلى الصمت والحيرة واليأس.
(٢) «ذرأ» : مشتقة من الذرء (على وزن زرع) ، وهي في الأصل بمعنى الخلق والإيجاد والإظهار.