هباءٍ ، وهو يشاهد اليوم عاقبة أمره ، وما إرتكبه من ذنوب ومعاص ، فيرتفع صراخه وعويله : (قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ).
ارجعني يا ربّ (لَعَلّى أَعْمَلُ صلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ). ولكن قانون الخلق العادل لا يسمح بمثل هذه العودة ، لا يسمح بعودة الصالح ولا الطالح ، فيأتيه النداء الدامغ (كَلَّا).
(إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا). كلام لم يصدر من أعماقه ، ومتى هدأت العاصفة بوجههم عادوا لسابق أعمالهم القبيحة.
وتشير الآية في نهايتها إلى عالم البرزخ الغامض بعبارة قصيرة ذات دلالة كبيرة (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١).
(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) (١٠٤)
جانب من عقاب المسيئين : تحدّثت الآيات السابقة عن عالم البرزخ ، وأعقبتها آيات تناولت القيامة بالبحث ، وتناولت كذلك جانباً من وضع المذنبين في عالم الآخرة. فهي تقول أوّلاً : (فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ).
من المعلوم ـ بالإستناد إلى آيات القرآن الكريم ـ أنّ النفخ في الصور يجري مرتين : اوليهما في نهاية هذا العالم ، حيث يموت مَن في الأرض والسماوات ، وفي ثانيتهما يبدأ بعث من في القبور ليعودوا لحياة جديدة وليستعدّوا للحساب والجزاء.
إنّ الآية السابقة أشارت إلى ظاهرتين من ظواهر يوم القيامة :
اوليهما : إنتهاء مسألة النسب ، لأنّ رابطة الاسرة والقبيلة التي تسود حياة الناس في هذا العالم تؤدّي في كثير من الحالات إلى نجاة المذنبين من العقاب ، إذ يستنجدون بأقربائهم في حلّ مشاكلهم ، أمّا الوضع يوم القيامة فيختلف ، حيث كل إنسان وعمله ، فلا معين له ، ولا
__________________
(١) «البرزخ» : في الأصل الشيء الذي يقع حائلاً بين شيئين ، ثم استعملت لكل ما يقع بين أمرين ، ولهذا أتت كلمة البرزخ للدلالة على عالم يقع بين عالم الدنيا والآخرة.