صحراء جاقّة حارقة ، ولا يجدون غير السراب فيموتون عطشاً ، في الوقت الذي عثر فيه المؤمنون على نور الإيمان ، ومنبع الهداية الرائعة ، فاستراحوا بجنبها ، فتقول أوّلاً : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمَانُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيًا). ولكن يجد الله عند أعماله : (وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ).
ثم تناولت الآية الثانية مثالاً آخر لأعمال الكفار وقالت : (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجِّىّ يَغْشهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ). وبهذا المنوال تكون (ظُلُمتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَيهَا).
أجل ، إنّ النور الحقيقي في حياة البشر هو نور الإيمان فقط ، ومن دونه تسود الحياة الظلمات ، ونور الإيمان هذا إنّما هو لطف من عند الله : (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ).
فقد شبّهت الآية أعمال غير المؤمنين بنور كاذب كسراب يراه ظمآن في صحراء جافة.
ثم ينتقل القرآن من الحديث عن هذا النور الكاذب ، الذي هو عبارة عن أعمال المنافقين إلى باطن هذه الأعمال ، الباطن المظلم والمخيف والموحش حيث تتعطل فيه حواس الإنسان ، وتظلم عليه الدنيا حتى لا يرى نفسه.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٤٢)
الجميع يسبّح لله : تحدثت الآيات السابقة عن نور الله ، نور الهداية والإيمان ، وعن الظلمات المضاعفة للكفر والضلال ، أمّا الآيات موضع البحث ، فإنّها تتحدث عن دلائل الأنوار الإلهية وأسباب الهداية ، وتخاطب الآية النبي صلىاللهعليهوآله فتقول : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبّحُ لَهُ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ). وكذلك الطير يسبّحن لله في حال أنّها باسطات اجنحتهنّ في السماء (وَالْطَّيْرُ صفتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ).
وبما أنّ هذا التسبيح العام دليل على خلقه تعالى لجميع المخلوقات ، وخالقيته دليل على مالكيته للوجود كله ، وكذلك دليل على أنّ كل ما في الوجود يرجع إليه سبحانه ، فتضيف الآية : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ).