أمّا فرعون ، فحيث وجد نفسه مهزوماً معنوياً ويرى من جانب آخر أنّ وجوده وسلطانه في خطر ، وخاصة أنّه كان يعرف أيّ تأثير عميق لإيمان السحرة في قلوب سائر الناس ، ومن الممكن أن يسجد جماعة آخرون كما سجد السحرة ، فقد تذرع بوسيلة جديدة وابتكار ماكر ، فالتفت إلى السحرة و (قَالَءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ).
لقد تربع على عرش الإستبداد سنين طوالاً ، كان ترقّبه أن تكون قلوب الناس وأفكارهم مرهونةً به وبأمره ، إلّاأنّ فرعون لم يقنع بهذا المقدار ، بل أضاف جملتين اخريين ليُثبت موقعه كما يتصوّر أوّلاً ، وليحول بين أفكار الناس اليقظين فيعيدهم غفلةً نياماً.
فاتّهم السحرة أوّلاً بأنّهم تآمروا مع موسى عليهالسلام على أهل مصر جميعاً ، فقال : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السّحْرَ).
إلّا أنّني لا أدعكم تنتصرون في هذه المؤامرة ، وسأخنق المؤامرة في مهدها (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مّنْ خِلفٍ وَلَأُصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ).
إلّا أنّ فرعون لم يحقق هدفه هنا ، لأنّ السحرة قبل لحظة ـ والمؤمنين في هذه اللحظة ـ قد غمر قلوبهم الإيمان ، بحيث لم يهزّهم تهديد فرعون ، فأجابوه بضرس قاطع واحبطوا خطته و (قَالُوا لَاضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ).
ثم أضافوا بأنّهم واجهوا النبي موسى عليهالسلام من قبل بالتكذيب وأذنبوا كثيراً ، ولكن مع ذلك ف (إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ).
إنّنا لا نستوحش اليوم من أي شيء ، لا من تهديداتك ، ولا من تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ولا من الصلب على جذوع النخل.
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) (٥٩)
في الآيات المتقدمة رأينا كيف أنّ موسى خرج منتصراً من تلك المواجهة وهذه الامور هيأت أرضية ملائمة لأن ينشر موسى عليهالسلام دعوته بين الناس ، ويتمّ الحجة عليهم.
ومرّت سنون طوال على هذا المنوال ، وموسى عليهالسلام يظهر المعاجز تلو المعاجز ، ولمّا أتمّ موسى على أهل مصر الحجة البالغة ، وامتازت صفوف المؤمنين من صفوف المنكرين ، نزل الوحي على موسى أن يخرج بقومه من مصر ، والآيات التالية تجسد هذا المشهد فتقول أوّلاً :