وبعد بيان أولى مراحل الربوبية ، وهي الهداية بعد الخلق ، يذكر إبراهيم الخليل عليهالسلام النعم المادية فيقول : (وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ).
ولست مشمولاً بنعمة في حال الصحة فقط ، بل في كل حال ، (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ). ومع أنّ المرض أيضاً قد يكون من الله ، إلّاأنّ إبراهيم نسبه إلى نفسه رعاية للأدب في الكلام ...
ثم يتجاوز مرحلة الحياة الدنيا إلى مرحلة أوسع منها ... إلى الحياة الدائمة في الدار الآخرة ، فيقول : (وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ).
وحين أرِدُ عرصات يوم القيامة اعلقّ حبل رجائي على كرمه : (وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيَتِى يَوْمَ الدّينِ).
وممّا لا شك فيه أنّ الأنبياء معصومون من الذنب ، وليس عليهم وزر كي يغفر لهم ... إلّاأنّه ـ كما قلنا سابقاً ـ قد تعدّ حسنات الأبرار سيئات المقربين أحياناً ، وقد يستغفرون أحياناً من عمل صالح لأنّهم تركوا خيراً منه ... فيقال عندئذ في حق أحدهم : ترك الأولى.
فإبراهيم عليهالسلام لا يعوّل على أعماله الصالحة ، فهي لا شيء بإزاء كرم الله ، ولا تقاس بنعم الله المتواترة ، بل يعوّل على لطف الله فحسب ، وهذه هي آخر مرحلة من مراحل الإنقطاع إلى الله ...
(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) (٨٧)
دعاء إبراهيم عليهالسلام : من هنا تبدأ أدعية إبراهيم الخليل وسؤالاته من الله ، فكأنّه بعد أن دعا قومه الضالين نحو الله ، يتجه بوجهه نحو الله ويعرض عنهم ، فأوّل ما يطلبه إبراهيم من ساحته المقدسة هو (رَبّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ).
إنّ إبراهيم عليهالسلام يطلب من الله قبل كل شيء المعرفة العميقة الصحيحة المقرونة بالحاكمية ، لأنّ أي منهج لا يتحقق دون هذا الأساس.