وبعد هذا الطلب يسأل من الله إلحاقه بالصالحين ، وهو إشارة إلى الجوانب العملية ، أو كما يصطلح عليها ب «الحكمة العملية» في مقابل الطلب السابق وهو «الحكمة النظرية» ...
وبما أنّه ليس للحكمة حد معين ، ولا لصلاح الإنسان حدّ ، فهو يطلب ذلك ليبلغ المراتب العليا من العلم والعمل يوماً بعد يوم ، حتى وهو في موقع النبوة ، وأنّه من أولي العزم .. لا يكتفي بهذه العناوين.
وبعد هذين الطلبين يطلب موضوعاً مهماً آخر بهذه العبارة : (وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الْأَخِرِينَ). أي : اجعلني بحال تذكرني الأجيال الآتية بخير.
فاستجاب الله دعاء إبراهيم كما يقول سبحانه في الآية (٥٠) من سورة مريم : (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا).
ثم ينظر إبراهيم إلى أفق أبعد من أفق الدنيا ، ويتوجه إلى الدار الآخرة ، فيدعو بدعاء رابع فيقول : (وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ).
«جنة النعيم» التي تتماوج فيها النعم المعنوية والمادية ، النعم التي لا زوال لها ولا اضمحلال ... النعم التي لا يمكن أن نتصورها.
إنّ التعبير بالإرث في شأن الجنة إمّا لأنّ معنى الإرث الحصول على الشيء دون مشقة وعناء ، أو أنّ ذلك ـ طبقاً لما ورد في بعض الروايات ـ لأنّ كل إنسان له بيت في الجنة وآخر في النار ، فإذا دخل النار ورث الآخرون بيته في الجنة.
وفي خامس أدعيته يتوجه نظره إلى عمّه الضالّ ، وكما وعده أنّه سيستغفر له ، فإنّه يقول في هذا الدعاء : (وَاغْفِرْ لِأَبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ).
وأخيراً فإنّ دعاءه السادس من ربّه في شأن يوم التغابن ، يوم القيامة ، بهذه الصورة : (وَلَا تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ). «تخزني» : مأخوذ من مادة «خزي» على زنة (حزب) ، وكما يقول الراغب في مفرداته ، معناه الذل والإنكسار الروحي الذي يظهر على وجه الإنسان من الحياء المفرط ، أو من جهة الآخرين حين يحرجونه ويخجلونه.
وهذا التعبير من إبراهيم ، بالإضافة إلى أنّه درس للآخرين ، هو دليل على منتهى الإحساس بالمسؤولية والإعتماد على لطف الله العظيم.