من تحتها ، فلما وصلت ملكة سبأ إلى ذلك المكان (قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ) (١). فلما رأته ظنته نهراً جارياً فرفعت ثوبها لتمر وسط الماء وهي متعجبة عن سبب وجود هذا الماء الجاري ، وكما يقول القرآن : (فَلَّمَا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا) (٢).
إلّا أنّ سليمان عليهالسلام التفت إليها و (قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ) (٣). فلا حاجة إلى الكشف عن ساقيك فلا يمس الماء قدميك.
وهنا ينقدح سؤال هام ، وهو أنّ سليمان نبي كبير ، فلم كان لديه هذا البناء الفائق والتزيّن الرائق ... والصرح الممرّد والبساط الممهّد .. وصحيح أنّه كان حاكماً مبسوط اليد ، إلّاأنّ الأنسب أن يكون له بساط مألوف كسائر الأنبياء.
إلّا أنّه ، ما يمنع أن يُري سليمان ملكة سبأ التي كانت ترى قدرتها وعظمتها بالعرش والتاج والقصر العظيم والزينة .. يريها هذا المشهد لتذعن لأمره ، ولتحتقر ما عندها؟! وهذه نقطة انعطاف في حياتها لتعيد النظر في ميزان القيم ومعيار الشخصية.
وبتعبير آخر : إنّ هذه النفقات المالية إزاء أمن منطقة واسعة ، وقبول دين الحق ، والوقاية عن الإنفاق المفرط للحرب ـ لم تكن أمراً مسرفاً. ولذلك حين رأت ملكة سبأ هذا المشهد الرائع : (قَالَتْ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمنَ لِلَّهِ رَبّ الْعلَمِينَ).
لقد كنت في ما مضى أسجد للشمس وأعبد الأصنام ، وكنت غارقة في الزينة والتجميل ، وكنت أتصور أنّي أعلى الناس في الدنيا. أمّا الآن فإنّني أفهم أنّني ضعيفة جدّاً.
ربّاه ... أتيت إليك مسلمة مع سليمان نادمة عن سالف عمري ، خاضعة عنقي إليك.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لَا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (٤٧)
__________________
(١) «صرح» : معناه الفضاء الواسع ، وقد يأتي بمعنى البناء العالي والقصر وفي الآية المشار إليها آنفاً معناه ساحة القصر أي فضاءه الواسع ظاهراً.
(٢) «اللّجة» : في الأصل مأخوذة من اللجاج ، ومعناه الشدة ، ثم أطلق على ذهاب الصوت وإيابه في الحنجرة تعبير «لجة» ، أمّا الأمواج المتلاطمة في البحر فتسمى «لُجة» وهي هنا في الآية بهذا المعنى الأخير.
(٣) «الممرّد» : معناه الصافي ؛ و «القوارير» : جمع قارورة وهي الزجاجة.