مشركي أهل مكة المعاندين ، كان رسول صلىاللهعليهوآله شديد الإصرار على هدايتهم ؛ وطائفة من أهل الكتاب والأفراد البعيدين عن مكة ، تلقوا هداية الله برحابة صدر ، ولم يستوحشوا من الضغوط والعزلة وما إلى ذلك.
فمع الإلتفات إلى كل هذه الامور ، نلاحظ أنّ الآية الاولى من هاتين الآيتين تكشف الستار عن هذه الحقيقة فتقول : (إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
والمقصود من الهداية ليس «إراءة الطريق» ، لأنّ إراءة الطريق هي من وظيفة النبي صلىاللهعليهوآله ، وتشمل جميع الناس دون استثناء ، بل المقصود من الهداية هنا هو «الإيصال للمطلوب والهدف» ، والإيصال إلى المطلوب وإلى الهدف هو بيد الله وحده.
إنّ هذه الآية بمثابة التسلية والتثبيت لقلب النبي ليطمئن إلى هذه الحقيقة ، وهي إنّه لا إصرار المشركين وعنادهم وإن كانوا من أهل مكة ، ولا إيمان أهل الحبشة ونجران وغيرهما أمثال سلمان الفارسي وبحيرا الراهب من دون دليل وسبب.
فعليه أن لا يكترث لعدم إيمان الطائفة الأولى.
وفي الآية الثانية ـ من الآيتين محل البحث ـ يتحدث القرآن الكريم عن طائفة اعترفوا بالإسلام في واقعهم وأيقنت به قلوبهم ، إلّا أنّهم لم يظهروا إيمانهم بسبب منافع شخصية وملاحظات ذاتية ، حيث يقول : (وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا).
هذا الكلام لا يقوله إلّامن يستضعف قدرة الله ولا يعرف كيف ينصر الله أولياءه ويخذل أعداءه. لذلك يقول القرآن ردّاً على مثل هذه المزاعم : (أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًاءَامِنَّا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلّ شَىْءٍ رّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَعْلَمُونَ) (١).
الله سبحانه الذي جعل هذه الأرض المالحة والمليئة بالصخور والخالية من الأشجار والأنهار ، جعلها حرماً تهفوا إليه القلوب ، ويؤتى إليه بالثمرات من مختلف نقاط العالم ، كل ذلك بيد قدرته القاهرة.
كيف لا يكون قادراً على أن يحفظكم من هجوم حفنة من الجاهليين عبّاد الأوثان؟
__________________
(١) «نمكّن» : في الآية بمعنى نجعل ؛ و «يجبى» : مشتق من مادة «جباية» ، والجبابة معناها الجمع ، لذلك يطلق على الحوض الذي يجمع فيه الماء جابية.