هنا أصبح الناس طائفتين ـ بحسب العادة فطائفة وهم الأكثرية ـ من عبدة الدنيا ـ أثارهم هذا المشهد ، فاهتزت قلوبهم ... (قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قرُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ).
وأمام هذه الطائفة التي ذكرناها آنفاً طائفة اخرى من العلماء والمتقين الورعين ، فهؤلاء كانوا هناك ، وكان لهم موقف آخر من قارون ، وكما يعبر عنهم القرآن (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لّمَنْءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا). ثم أردفوا مؤكّدين : (وَلَا يُلَقهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ).
في الدر المنثور عن ابن عباس أنّ قارون كان من قوم موسى ، قال : كان ابن عمه وكان يبتغي العلم حتى جمع علماً فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى وحسده.
فقال له موسى عليهالسلام : إنّ الله أمرني أن آخذ الزكاة فأبى. فقال : إنّ موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم؟ قالوا : لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم : أرى أن ارسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنّه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها : نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنّه فجر بك. قالت : نعم.
فجاء قارون إلى موسى عليهالسلام قال : اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربّك قال : نعم. فجمعهم فقالوا له : بم أمرك ربّك؟ قال : أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم. قالوا : وإن كنت أنت؟ قال : نعم. قالوا : فإنّك قد زنيت ، قال : أنا؟
فأرسلوا إلى المرأة فجاءت ، فقالوا : ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى عليهالسلام أنشدتك بالله إلّاما صدقت. قالت : أمّا إذا نشدتني فإنّهم دعوني وجعلوا لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي وأنا أشهد أنّك بريء وأنّك رسول الله.
فخرّ موسى عليهالسلام ساجداً يبكي فأوحى الله إليه : ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها فتطيعك ، فرفع رأسه فقال : خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا يقولون : يا موسى يا موسى. فقال : خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم فجعلوا يقولون : يا موسى يا موسى فقال : خذيهم فغيّبتهم فأوحى الله : «يا موسى سألك عبادي وتضرّعوا إليك فلم تجبهم فو عزّتي لو أنّهم دعوني لأجبتهم» (١).
__________________
(١) الميزان في تفسير القرآن ١٦ / ٨٣.