وبعد ذكر هذه الواقعية ، وهي أنّ الدار الآخرة ليست لمن يحب السلطة والمستكبرين ، بل هي للمتقين المتواضعين وطلبة الحق ، تأتي الآية الثانية لتبيّن قانوناً كلّياً وهو مزيج بين العدالة والتفضل ، ولتذكر ثواب الإحسان. فتقول : (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا).
وهذه هي مرحلة التفضل ، أي أنّ الله سبحانه لا يحاسب الناس كما يحاسب الإنسان نظيره بعين ضيّقة ، فإذا أراد الإنسان أن يعطي أجر صاحبه فإنّه يسعى أن يعطيه بمقدار عمله ، إلّاأنّ الله قد يضاعف الحسنة بعشر أمثالها وقد يضاعفها بمئات الأمثال وربّما بالآلاف ، إلّاأنّ أقلّ ما يتفضل الله به على العبد أن يجازيه عشرة أضعاف حسناته ، حيث يقول القرآن في الآية (١٦٠) من سورة الأنعام : (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا).
ثم يعقّب القرآن ليذكر جزاء المسيئين فيقول : (وَمَن جَاءَ بِالسَّيّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وهذه هي مرحلة العدل الإلهي ، لأنّ المسيء لا يجازى إلّابقدر إساءته ، ولا تضاف على إساءته أيّة عقوبة.
(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ (٨٦) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٨)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس : لما نزل النبي صلىاللهعليهوآله بالجحفة في مسيره إلى المدينة ، لما هاجر إليها ، اشتاق إلى مكة فأتاه جبرائيل عليهالسلام فقال : أتشتاق إلى بلدك وهو مولدك؟! فقال : نعم. قال جبرائيل : فإنّ الله يقول : (إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) (١). يعني مكة ... ونعلم إنّ هذا الوعد العظيم تحقق أخيراً.
__________________
(١) راجع تفسير الميزان ، تفسير القرطبي ، ومجمع البيان ، «التّفسير الكبير» للفخر الرازي ، وتفاسير غيرها.