أساس الفساد ومصدره أعمال الناس أنفسهم : كان الكلام في الآيات االسابقة عن الشرك ، ونعلم أنّ أساس جميع المفاسد هو الغفلة عن أصل التوحيد والتوجه نحو الشرك ، لذلك فإنّ القرآن ـ في هذه الآيات محل البحث ـ يتحدث عن ظهور الفساد في الأرض بسبب أعمال الناس أنفسهم ، فيقول : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ).
والله يريد أن يريهم ما قدموه و (لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِى عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
والآية الآنفة الذكر تبيّن المعنى الواسع حول إرتباط الفساد بالذنب ، الذي لا يختص بأرض «مكة» والحجاز ، ولا بعصر النبي صلىاللهعليهوآله.
وفي الآية التالية يأمر الله الناس بالسير في الأرض ليروا شواهد كثيرة «حيّة» من مسألة ظهور الفساد في الأرض بسبب المعاصي والذنوب من قبل الناس. ويوصي نبيّه صلىاللهعليهوآله أن يأمرهم بذلك ، فيقول : (قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ).
أجل (كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ). والشرك أساس الفساد والانحراف والضلال.
وحيث إنّ التصور والوعي والإنتباه ، ثم العودة والإنابة إلى الله ، كل ذلك لا يكون ـ دائماً ـ مفيداً ومؤثراً ، ففي الآية التالية يوجه القرآن الخطاب للنبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله قائلاً : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ الْقَيّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لَّامَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ). أي يتفرقون «فريق في الجنّة وفريق في السعير».
ووصف الدين بأنّه «قيّم» مع ملاحظة أنّ «القيّم» : معناه الثابت والقائم ، هو إشارة إلى أنّ هذا التوجه المستمر «أو الإقامة» هي للدين .. أي لأنّ الإسلام دين ثابت ومستقيم وذو نظام قائم في الحياة المادية والمعنوية للناس ، فلا تمل عنه أبداً ، بل أقم وجهك للدين القيم.
وإنّما وجه الخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوآله ليعرف الآخرون واجبهم ووظيفتهم أيضاً.
والتعبير ب «يصّدّعون» من مادة «صدع» معناه في الأصل : كسر الإناء ، ثم انتقل بالتدريج إلى أي نوع من أنواع التفرق والتشتت ، وهنا إشارة إلى انفصال صفوف أهل الجنان عن صفوف أهل النيران.
والآية التالية بيان لهذا الإنفصال في يوم القيامة ، إذ تقول : (مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ).
«يمهدون» : مشتقة من «المهد» وكما يقول الراغب في مفرداته فإنّ معناه السرير المعدّ