حصن الفزاري وذووهم من المؤلّفة قلوبهم ، فوجدوا النبي صلىاللهعليهوسلم قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المؤمنين ، فلمّا رأوهم حوله حقّروهم ، فأتوه فقالوا : يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس ونفيت عنّا هؤلاء وأرواح جبابهم ـ وكان عليهم جباب صوف لها رائحة لم يكن عليهم غيرها ـ لجالسناك وأخذنا عنك ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم لهم : «ما أنا بطارد المؤمنين» ، قالوا : فإنّا نحب أن نجعل لنا منك مجلسا تعرف العرب به فضلنا ، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنّا ، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت ، قال : نعم ، قالوا : اكتب لنا عليك بذلك كتابا ، قال : فدعا بالصحيفة ودعا عليا ليكتب ، قال (١) : ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل بقوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ، إلى قوله : (بِالشَّاكِرِينَ) ، فألقى رسول الله صلىاللهعليهوسلم الصحيفة من يده ، ثم دعانا فأتيناه وهو يقول : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ، فكنّا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا ، فأنزل الله عزوجل : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف : ٢٨] ، فكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقعد معنا بعد وندنو منه حتى كانت ركبنا تمسّ ركبته ، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم ، وقال لنا : «الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبّر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات».
وقال الكلبي : قالوا له : اجعل لنا يوما ولهم يوما ، فقال : «لا أفعل» ، فقالوا : فاجعل المجلس واحدا فاقبل علينا وولّ ظهرك عليهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ).
قال مجاهد : قالت قريش : لو لا بلال وابن أم عبد لبايعنا محمدا ، فأنزل الله هذه الآية : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) ، [قال ابن عباس](٢) : يعني : صلاة الصبح وصلاة العصر.
ويروى عنه : أن المراد منه الصلوات الخمس ، وذلك أن ناسا من الفقراء كانوا مع النبيّ عليهالسلام ، فقال ناس من الأشراف : إذا صلّينا فأخّر هؤلاء وليصلوا خلفنا ، فنزلت هذه الآية.
وقال مجاهد : صلّيت الصبح مع سعيد بن المسيّب : فلمّا سلّم الإمام ابتدر الناس القاص ، فقال سعيد : ما أسرع الناس إلى هذا المجلس! قال مجاهد : فقلت يتأوّلون قوله : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) ، قال : أفي هذا! هو إنما ذلك في الصلاة التي انصرفنا عنها الآن.
وقال إبراهيم النخعي : يعني يذكرون ربّهم ، وقيل المراد منه : حقيقة الدعاء ، (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ، أي : يريدون الله بطاعتهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما : يطلبون ثواب الله ، فقال : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، أي : لا تكلف أمرهم ولا يتكلّفون أمرك ، وقيل : ليس رزقهم عليك فتملهم ، (فَتَطْرُدَهُمْ) [ولا](٣) رزقك عليهم ، قوله : (فَتَطْرُدَهُمْ) ، جواب لقوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، وقوله : (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، جواب لقوله : (وَلا تَطْرُدِ) ، أحدهما
__________________
وابن ماجه ٤١٢٨ وأبو يعلى ٨٢٦ والطبري ١٣٢٦٦ والواحدي والحاكم (٣ / ٣١٩) عن سعد بن أبي وقاص قال : نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم : أنا وابن مسعود ، وبلال ، ورجل من هذيل ، ورجلان لست أسمّيهما فقال المشركون للنبي صلىاللهعليهوسلم : اطردهم لا يجترئون علينا ... فنزلت» ا ه.
وانظر «تفسير الشوكاني» ٨٩٧ و ٨٩٨ و «تفسير الزمخشري» ٣٧٦ بتخريجي.
__________________
(١) في المطبوع وط «قالوا».
(٢) زيادة عن المخطوط وط.
(٣) سقط من المطبوع.