أبو البشر ففي خلقه خلق من يخرج من صلبه ، وقيل : خلقناكم في ظهر آدم ثم صوّرناكم يوم الميثاق حين أخرجكم (١) كالذر. وقال عكرمة : خلقناكم في أصلاب الرجال وصوّرناكم في أرحام النساء. وقال يمان : خلق الإنسان في الرحم ثم صوّره فشقّ سمعه وبصره وأصابعه. وقيل : الكل آدم خلقه وصوّره وثم بمعنى الواو ، (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ، فإن قيل : الأمر بسجود الملائكة كان قبل خلق بني آدم ، فما وجه قوله : (ثُمَّ قُلْنا) ، وثم للترتيب والتراخي؟ قيل : على قول من يصرف الخلق والتصوير إلى آدم وحده يستقيم الكلام إما على قول من يصرفه إلى الذرية فعنه أجوبة أحدها [أن](٢) ثم بمعنى الواو ، أي : وقلنا للملائكة ، فلا يكون للترتيب والتعقيب ، وقيل : أراد ثم أخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا ، وقيل : فيه تقديم وتأخير تقديره ولقد خلقناكم ، يعني : آدم ثم قلنا للملائكة اسجدوا ثم صوّرناكم. قوله تعالى : (فَسَجَدُوا) ، يعني : الملائكة ، (إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) ، لآدم.
(قالَ) الله تعالى : يا إبليس (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) ، أي : ولم منعك أن تسجد ولا زائدة ؛ كقوله تعالى : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥)) [الأنبياء : ٩٥]. (قالَ) إبليس مجيبا له : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) لأنك (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ، والنار خير وأنور من الطين ، قال ابن عباس : أول من قاس إبليس فأخطأ القياس فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس. قال ابن سيرين : ما عبدت الشمس إلا بالقياس. قال محمد بن جرير : ظن الخبيث أن النار خير من الطين ولم يعلم أن الفضل لمن جعل الله له الفضل ، وقد فضل الطين على النار. وقالت الحكماء : للطين فضل على النار من وجوه (٣) ، منها أنّ من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الداعي لآدم بعد السعادة التي سبق له إلى التوبة والتواضع والتضرّع فأورثه الاجتباء والتوبة والهداية ، ومن جوهر النار الخفة والطيش والجرأة والارتفاع وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار ، فأورثه اللعنة والشقاوة ، ولأن الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرّقها ولأن التراب سبب الحياة ، لأنّ حياة الأشجار والنبات به ، والنار سبب الهلاك.
(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧))
قوله تعالى : (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها) ، أي : من الجنّة ، وقيل : من السماء إلى الأرض وكان له ملك الأرض وأخرجه منها إلى جزائر البحر وعرشه في البحر الأخضر ، فلا يدخل الأرض إلا خائفا على هيئة السارق مثل شيخ عليه أطمار يروع فيها حتى يخرج منها. قوله تعالى : (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ) ، بمخالفة الأمر ، (فِيها) ، أي : في الجنّة ، ولا ينبغي أن يسكن الجنّة ولا السماء متكبّر مخالف لأمر الله ، (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) ، من الأذلّاء ، والصغار : الذلّ والمهانة.
(قالَ) إبليس عند ذلك ، (أَنْظِرْنِي) ، أخّرني وأمهلني فلا تمتني ، (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، من قبورهم وهو النفخة الأخيرة (٤) عند قيام الساعة ، أراد الخبيث أن لا يذوق الموت.
__________________
(١) كذا في المطبوع وط ، وفي المخطوطتين «أخرجهم».
(٢) زيادة عن المخطوط.
(٣) تصحف في المطبوع «وجده».
(٤) في المطبوع «الآخر».