بالأحقاف ، وهي رمال بين عمان وحضرموت ، وكانوا قد فشوا في الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوّتهم التي آتاهم الله عزوجل ، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها لهم ، صنم يقال له صداء وصنم يقال له صمود (١) وصنم يقال له الهباء ، فبعث الله إليهم هودا نبيا وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا فأمرهم أن يوحّدوا الله ويكفّوا عن ظلم الناس لم يأمرهم بغير ذلك ، فكذّبوه وقالوا من أشد منّا قوة وبنوا المصانع وبطشوا بطشة الجبارين ، فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك ، وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء فطلبوا الفرج كانت طلبتهم إلى الله عزوجل عند بيته الحرام بمكة مسلمهم ومشركهم ، فيجتمع بمكة ناس كثير شتّى ، مختلفة أديانهم وكلهم معظّم لمكة ، وأهل مكة يومئذ العماليق سموا عماليق ، لأن أباهم عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح ، وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة رجل يقال له معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخيبري رجل من عاد ، فلما قحط المطر عن عاد وجهدوا قالوا : جهّزوا وفدا منكم إلى مكة فليستسقوا لكم ، فبعثوا قيل بن عنز ونعيم بن هزال من هزيل وعقيل بن صندين بن عاد الأكبر ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلما يكتم إسلامه ، وجهلمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر ، ثم بعثوا لقمان بن عاد الأصغر بن صندين بن عاد الأكبر ، فانطلق كل رجل من هؤلاء ومعه رهط من قومه حتى بلغ عدد وفدهم سبعين رجلا ، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم ، فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان وهما قينتان لمعاوية بن بكر ، وكان سيرهم شهرا ومقامهم شهرا فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوّثون بهم من البلاء الذي أصابهم شقّ ذلك عليه ، وقال : هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي ، والله ما أدري كيف أصنع بهم ، أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه ، فيظنون أنه ضيق مني بمقامهم عندي ، وقد هلك من وراءهم من قومهم جهدا وعطشا ، فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين ، فقالتا : قل شعرا تغنّهم به لا يدرون من قاله لعلّ ذلك أن يحرّكهم ، فقال معاوية بن بكر :
ألا يا قيل ويحك قم فهينم |
|
لعلّ الله يسقينا (٢) غماما |
فيسقي أرض عاد إنّ عادا |
|
قد أمسوا لا يبينون الكلاما |
من العطش الشديد فليس نرجو |
|
به الشيخ الكبير ولا الغلاما |
وقد كانت نساؤهم بخير |
|
فقد أمست نساؤهم أيامى |
وإنّ الوحش تأتيهم جهارا |
|
فلا تخشى لعادي سهاما |
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم |
|
نهاركمو وليلكمو تماما |
فقبّح وفدكم من وفد قوم |
|
ولا لقوا التحية والسلاما |
فلمّا غنّتهم الجرادتان هذا قال بعضهم لبعض : يا قوم إنّما بعثكم قومكم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم ، فقال مرثد بن سعد بن عفير وكان قد آمن بهود سرا : إنكم والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى ربّكم سقيتم ، فأظهر إسلامه عند ذلك وقال شعرا :
__________________
(١) وقع في المخطوط «صموت» وهو تصحيف.
(٢) في المخطوط «يصحبنا» وفي ابن كثير (٢ / ٢٨٦) «يصبحنا».