عند أمر الله ورسوله ، بالإخلاص ووجل القلب عند سماع الذكر والقرآن ومزيد اليقين ، وترك التدبير في استقبال التقدير ، ومقام المناجاة من الصلاة ، والانقطاع عن الاشتغال بالدنيا ، وإيثار حقوق الإخوان على نفسه ، فإذا استكمل هذه الجلال ، وتمّ اسم تحقيق الإيمان عليه ، لقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا).
ويستحقّ بعد هذا الثناء ما وعده الله المتحقّقين في إيمانه من المغفرة التامة ، حيث لم يلتفت بفضله إلى خطراتهم ، ويشرفهم إلى علي الدرجات ، ويسقيهم شراب الوصال عند كشوف المشاهدات ، بقوله تعالى : (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) : بيّن أن حقيقة الإيمان مكاشفة الغيب ، وظهور ما وعد الله لهم ، وتصديق ذلك سؤال النبي صلىاللهعليهوسلم عن الحارثة فقال : «يا حارثة ، لكل حق حقيقة ، فما حقيقة إيمانك؟ قال : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي ، وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتزاورون ، وإلى أهل النار يتعاوذون ، فقال صلىاللهعليهوسلم : عرفت فالزم» (١).
فصحّ في الآية والحديث أن حقيقة الإيمان رؤية الغيب بالغيب ، وثمرتها ما ذكره الله في الآية من المعاملات السنيّة ، والحالات الشريفة.
قيل : اجتمعت فيه أشياء حقّق بها إيمانهم ؛ لتعظيم الذكر والوجل عند سماعه ، وإظهار الزيادة عليهم عند تلاوة الذكر وسماعه ، وحقيقة التوكّل على الله ، والقيام بشروط العبودية على حدّ الوفاء ، وأكملت أوصافهم في حقيقة الحقائق ، فصاروا محقّقين بالإيمان.
قال الجنيد : حقّا إنه سبقت لهم من الله السعادة.
قال أبو بكر بن طاهر : حقيقة الإيمان بخمسة أشياء : باليقين ، والإخلاص ، والخوف ، والرجاء ، والمحبّة ، فباليقين يخرج من الشك ، وبالإخلاص يخرج من الرياء ، وبالخوف يخرج من المكر ، وبالرجاء يخرج من القنوط ، وبالمحبّة يخرج من الوحشة والحيرة.
وقال الأستاذ في قوله تعالى : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) : أنّ الحقّ سبحانه يسرّ مثالب العاصين ، ولا يفضحهم ؛ لئلا يحجبوا عن مأمول أفضالهم ، ويستر مناقب العارفين عليهم لئلا يعجبوا بأعمالهم وأحوالهم ، والرزق للأسرار مما يكون استقلالها من المكاشفات ، ثم بيّن تعالى أنّ لأهل حقائق الإيمان بعض طباع البشرية ، وحركات الأنفس الأمّارة عند وقوع أمر الله ، ولا ينقلب ذلك بمنقصتهم ، بل بفضله ورحمته اصطفاهم بهذه الكرامات قبل وجودهم في الأزل بخاصية اجتبائه بغير علّة اكتسابهم ، وبيّن أن الوليّ الصادق وإن بلغ درجة الولاية لم
__________________
(١) رواه ابن المبارك في الزهد (ص ١٠٦).