يخل من بعض خطرات النفس ، ولم يكن ذلك لنقصانه ، بل بيان اختصاصه باختصاصه القديم في سابق حكمه لهم ، حتى لا يظن الظّان أن الوليّ لم يبلغ درجة الولاية إلا بأداء جميع حقوق العبودية ، فإنّ محل النبوّة لا يخلو من الخطرات ، فكيف بمحل الولاية ، وجملة ذلك قوله سبحانه لنبيّه صلىاللهعليهوسلم : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ).
ثم زاد في وصف طباعهم النفسانية ، بقوله تعالى : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ).
سبحانه من خصّ هؤلاء بهذه الصفات بحقائق الإيمان ودرجاتها وأنوارها ومكاشفاتها ، ولم ينل بتلك الصفات ؛ ليعلم الخلق أن فضله سابق عليهم ، وعنايته لهم قديمة.
ومعنى الآية أن وضع قسمة الغنائم بقسمة الأزل ، كما أرادت نفوسهم (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) من بيتك لقتال العدو ، وهم في ذلك كارهون ، أي : كراهتهم في القتال لكراهتهم في قسمة الغنائم ، وتلك الكراهة من قبل النفس ، وطبع البشرية لا من قبل الإنكار في قلوبهم لأمر الله ورسوله ؛ فإنهم موقنون بقول الله ورسوله.
وكذا حال جميع السالكين لم تفر نفوسهم من أوطان قلوبهم في جميع الأنفاس ، إلا عند كشوف مشاهدة الحق سبحانه ، فهناك لا يبقى على وجه أرض القلوب إلا إشراق أنوار الغيوب.
قيل : أن النفس لا تألف الحق أبدا ، جدالهم مع النبي صلىاللهعليهوسلم من جهة ، لانبساطهم أطفال حجر الوصلة ، وجدالهم كجدال الخليل عليهالسلام من رأس الخلّة والانبساط.
قال تعالى : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤] ، والفرار ليلا قبل وقوع المشاهدة ، فإذا وقع الحق ، ورفع الحجاب لم يبق من آثار النفوس ذرّة ، فالقوم كانوا في ذلك الوقت في مقام الغيبة ، فلمّا انكشف لهم مأمولهم ، بذلوا مهجتهم بطيب نفوسهم ، حيث اختاروا الشهادة في الأحد ، وإن من سنّة الله لأهل السلوك إخراجه إياهم من أوطانهم ؛ ليذوقوا مرارة الفرقة في الغربة ، ولا يبقي عليهم مألوفات البشرية ؛ لذلك قال تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ). فالحقيقة في ذلك خروج الرجال من أوطان النفوس إلى فضاء المشاهدة ، حتى لا يبقى معك غيره.
قال أبو يزيد ـ قدّس الله روحه ـ : سألت الوصلة ، فقال لي : دع نفسك وتعال.
قال ابن عطاء : أخرجك من بلدتك ؛ ليحيي بك قلوبا عمياء عن الحقّ.