(وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) : مفارقة أوطانهم ، ولا تتم لعبد حقيقة الصحبة والنصيحة ، إلّا بعد هجران أقاربه ومفارقة أوطانه ، أخرجهم من تلك البلدة حتى ألفوا غيرها من البلاد ، ولم يبق عليهم مطالبة لها ، فردّهم إليها ؛ لئلا يملكنهم سوى الحق شيء.
وقال بعضهم في هذه الآية : أفناك عن أوصافك ، ومواضع سكونك واعتمادك ، وما كان يميل إليه قلبك ؛ لئلّا تلاحظ محلّا ، ولا تسكن إلى مألوف ، فأخرجك من المألوفات ؛ ليكون بالحق قيامك ، وعليه اعتمادك.
(وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) : ظاهر روحك ومفارقتك أوطانك ، ولا يعلمون أن خروجك منها الخروج عن جميع الرسوم المألوفة ، والطبائع المعهودة ، وأنك بمفارقة هذا الوطن المعتاد ، يصير الحق وطنك.
ثم زاد سبحانه في وصف القوم في طلب ماهيتهم ، بقوله تعالى : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) (١) : سنّة الله التي قد جرت في الأزل أن عند كلّ مشاهدة مجاهدة ، وأن عند كل نعمة بلا ظهور فضل الربوبيّة ، وإذعان الخليقة لأمر القدم بنعت العبودية.
قال بعضهم : من ظنّ أنه يصل إلى الحقّ بالجهد فمتعن ، ومن ظن أنه يصل إليه بغير الجهد فهن.
قوله تعالى : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) : تعيّن بلطفه ، وإبراز كرمه ، وظهور جلاله لأهله ، وبيّن الصادق في محبّته ، والمدّعي بكراماته.
وأيضا (لِيُحِقَّ الْحَقَ) : الإيمان والصدق ببذل مهجتهم لله مما يجري على أوصافهم من خطور النفسانية.
وأيضا : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) : حق المشاهدة المحبّة في قلوبهم ، ويبطل الهواجس في نفوسهم.
قال بعضهم : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) بالإقبال عليه و (يُبْطِلَ الْباطِلَ) بالإعراض عنه.
__________________
(١) أي : ذات الحرب (تكون لكم) وهي العير ، فإنها لم يكن فيها إلا أربعون رجلا ، وتكرهون ملاقاة النفير لكثرة عددهم وعددهم ، (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) أي : يظهر الحق ، وهو الإسلام ، بقتل الكفار وهلاكهم في تلك الغزوة ، (بكلماته) أي : بإظهار كلماته العليا ، أو بكلماته التي أوحى بها في هذه الحال ، أو بأوامره للملائكة بالأمداد ، أو بنفود كلماته الصادقة بهلاكهم ، (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أي : يستأصلهم ويقطع شوكتهم. البحر المديد (٢ / ٣٣٦).