صفاء البلغمية ، وليس ذلك يقوى.
فإذا هاج ذلك الدم من أصل الكبد والقلب ، ومشرعه المعدة ، وارتفع إلى الدماغ يختلط هناك برطوبات الدماغ ، فيصير ثقيلا ، فيسقط ثقله إلى القلب ، ويصير الدماغ والقلب ثقيلين ، ويجري ذلك الثقل في جميع العروق ، فتصير جميع الأعضاء مسترخية من غشيان ذلك الدم ، ويغلب على العقل والحواس ، فيسمى ذلك بعينه النوم وهذه الصفات صفات حيوانية إنسانية ، نفى الله تلك الصفة عن جلال ذاته ، حيث وصف نفسه بالتنزيه والتقديس عن علّة الحدثان ، بقوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥] ، ومن فضلة وكرمه على أوليائه إذا أراد أن يروّح أبدان الصدّيقين من ثقل العبادات يغشي دماغهم بغفوة النعاس ؛ ليستريحوا من عناء القبض ، ويسكنوا بروح البسط.
ثم النعاس موضع ظهور أوائل أشكال المكاشفات ، واشتمال هواتف الغيبية من عالم الملكوت ، يرون بقلوبهم بين النعاس والنوم واليقظة ، أشياء بديهية غيبية ، تورث السكينة والطمأنينة والأمن ، بقوله تعالى : (أَمَنَةً مِنْهُ) أي : أمنا منه من زيادة الامتحان ، وغلبة النفس والشيطان.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «النعاس في القتال أمنة من الله ، وفي الصلاة من الشيطان» ، وكان النبي صلىاللهعليهوسلم نومه نعاسا ، لذلك قال صلىاللهعليهوسلم : «تنام عيناي ولا ينام قلبي» (١) ؛ لأنّ القلب إذا نام لم ير من عالم الملكوت شيئا ، وهكذا حال الأولياء قلوبهم في جميع الأوقات يقظى ، ونومهم ليس بكثير ، وكلّ قلب يرى في نومه شيئا من الغيب لم يكن في ذلك الوقت إلا نعاس.
قال سهل : «النعاس» : ينزل من الدماغ والقلب ، والنوم محلّ بالقلب من الظاهر ، وهو حكم النوم ، وحكم النعاس حكم الروح ، وفائدة النعاس هاهنا إعلام الله إيّاهم أن فيض كرمه ليس باكتسابهم ، أفناهم عن نفسه ، ثم أظهر فضله عليهم بأن يهزم عدوّهم بإلقائه عساكر الرعب في قلوبهم ، قال عليهالسلام : «نصرت بالرعب» (٢).
وإذا برء العبد من حوله وقوته ، يجيء نصر الله له ، فيظفر بجميع مراده ، ثمّ منّ الله عليهم بإنزاله رحمته من السماء عليه ، بقوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) الماء الطاهر يطهر الأشباح ، وماء المعرفة يطهر الأرواح ، ويعرفها مكان كل حقيقة من عين الفعل والصفة ، فإذا عرفت الأفعال والصفات عرفت الذات ، فمثالها مثال الأصداف في
__________________
(١) رواه البخاري (٣ / ١٣٠٨).
(٢) رواه البخاري (١ / ١٢٨) ، ومسلم (١ / ٣٧٢).