وقال بعضهم : «الصمّ» : عن سماع الذكر ، وفهم معانيه ، و «البكم» : عن مداومة تلاوة الذكر وطلب الزيادة منه ، الذين لا يعقلون ما خوطبوا به ، وما خلقوا له ، وما هم صائرون إليه في المآب.
وقال الأستاذ : من صمّ عن إدراك ما خوطب به وبسرّه ، وعمي عن شهود ما كوشف به قلبه ، وخرس عن إجابة ما أرشد إليه من حجة فهمه وعقله ، فدون رتبة البهائم قدره ، وفوق كلّ خسيس من حكم الله ذلّه وصغّره ، ثم أنّ الله سبحانه أضاف حرمانهم من فهم الخطاب ، وإدراكه حقائقه ، ومتابعة أمره إلى قسمة أزله ، ومشيئة سابق حكمه (١) ، بقوله :
(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي : لو علم الله في قلوبهم خير اصطفائيته الأزليّة ، لأسمعهم حقيقة خطابه ، وعرّفهم مكان مراده فيه ، ولكن ما داموا لم يكونوا مصطفين في أزل الخيرية الاصطفائية ، ما أسمعهم لطائف كلامه ، وما عرّفهم مواضع أنبائه العجيبة ، وحقائق حكمه الغريبة ، وبيّن أنه تعالى لو أسمعهم خطابه بنعت ما وصفنا لم يدركوه ، وهم معرضون عن متابعة أمره ؛ لأنّهم محرومون في الأزل من رؤية حسن حضرته ، وإدراك اجتبائه.
قال يحيى بن معاذ : إنّ هذا العلم الذي تسمعونه ، إنّما تسمعون ألفاظه من العلماء ، ومعانيها من الله بآذان قلوبكم ، فاعملوا وتعقّلوا ما تسمعون ، فإن لم تعلموا كان ضره أقرب إليكم من نفعه.
قال بعضهم : علامة الخير في السماع لمن سمعه فناء أوصافه ونعوته وسمعه بحقّ من حقّ.
وقال الأستاذ : من أقصته سوابق القسمة لم يدنه لواحق الخدمة ، ولها وصف حرمان الزائغين عن الحق وعي ، فإن
الخطاب خطاب أهل إرادة المحبّة ، ودعاهم إلى مشاهدته وقربه ، وطلب منهم إجابة دعوته بنعت متابعته ، ومتابعة رسوله ، بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ).
طيّب أرواحهم بنسيم روائح قدس ندائه ، وفتح آذان قلوبهم لحلاوة دعائه ، وشوق أسرارهم بلذيذ خطابه ، وجعلهم مستبشرين بلطيف حكمه ، وعلى وجدانهم أنوار قربه.
ألا ترى كيف قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) : دعاءه
__________________
(١) انظر : تفسير القشيري (٣ / ١٢).