وقال الأستاذ : الإشارة إذا باشر زلّة بنفسه ، عاد إلى القلب منه الفتنة ، وهي القسوة المعجد ، وتصيب النفس من الفتنة العقوبة ، والقلب إذا حصل منه زلّة ، وهو فيما لا يجوز يتأدى فتنته إلى السرّ ، وهي الحجبة.
ويقال : أنّ الزاهد إذا انحط إلى رخص الشرع في أخذ الزيادة من الدنيا ما فوق الكفاية ، وإن كان من وجه الحلال تعدى فتنته إلى من تخرج به من المبتدئين ، فيحمله على ما رأى منه على الرغبة في الدنيا وترك التقلّل ، فتؤدّيه إلى الانهماك في أودية الغفلة من الانشغال بالدنيا عن ربّه.
والعابد إذا جنح إلى ترك الأوراد ، تعدّى في ذلك إلى من كان يبسط في المجاهدة ، فيستوطن الكسل ، ثمّ يحمله الفراغ ، وترك المجاهدة على اتّباع الشهوات فيصير كما قيل : أن الفراغ والشباب والحدّة مفسدة للمرء ، أي مفسدة.
قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) : منّ الله على أوليائه بأنه وإن كان عددهم قليلا ، فهو عند الله عظيم ، فأكثرهم بالإخوان من العارفين حين كانوا عند الأعداء خائفين من شرّهم ، ومن شرّ معصيتهم وقلّة احترامهم ، بقوله : (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) ؛ لأنهم في منادى الأحوال ، فلمّا آواهم الله إلى مقام مشاهدته ، وألبسهم لباس أنوار هيبته ، وسقاهم شراب وصلته ، غلبوا بنصرة الله على أعداء الله ، وصاروا صاغرين عند هؤلاء الأولياء ، وذلك قوله تعالى : (فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) : آواهم من قهره إلى لطفه ، ووسّمهم بسمات قدرته ، وأطعمهم من موائد قربته.
(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) : تعرفون مشكوركم حين تعجزون عن أداء شكر معرفته.
قال الأستاذ : رزق الأشباح من طيّبات الغذاء ، ورزق الأرواح والسرائر من صنوف الضياء ، فلمّا وفّقهم بعوالي تلك الدرجات ، حذّرهم الله عن الخيانة في الطريق ، بقوله تعالى :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) : إذ عرّفكم الله معالم الربوبيّة ، وحقائق العبوديّة ، وأعلمكم علوم حكم المعرفة لا تكتموها عن أهلها من المريدين الصادقين ، وما وجدتم من ذلك من شرائع رسولي ، وعلمه المأثور منه لا تمنعوا منه من يقتبس منكم ، قال عليهالسلام : «بلغوا عني ولو آية» (١)
وإذا عرفتم ذلك اعملوا به ، ولا تخونوا في تلك الأمانة التي أودعها الله قلوبكم بترك رعايتها بنعت العمل ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فذلك قوله : (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) ،
__________________
(١) رواه البخاري (٣ / ١٢٧٥).