قال سهل : نورا يفرق به بين الحق والباطل.
وقال الجنيد : إذا اتّقى العبد ربه جعل له تبيانا يتبيّن به الحقّ من الباطل ، وهذه نتيجة التقوى.
فقيل له : أليست التقوى فرقانا؟ قال : بلى ، الأول : بداية من الله ، والثاني : اكتساب ، فإذا اتقى الله ، اكتسب بتقواه معرفة التفرقة بين الحق والباطل ، فيتبيّن هذا من هذا.
وقال الأستاذ : «الفرقان» : ما يفرّقون به بين الحق والباطل ، من علم وافر ، وإلهام قاهر ، فالعلماء فرقانهم محبوب برهانهم ، والعارفون فرقانهم موهوب عرفانهم ، فهؤلاء مع مجهود نفسهم ، وهؤلاء لمقتضى جود ربهم ، فالعرفان تعريف من الله ، والتكفير تخفيف من الله ، والغفران تشريف للعبد من الله.
قوله تعالى : (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) وصف تعالى نفسه بالمكر ، ومكره منزّه عن الحيل والمخاييل والأباطيل.
«مكره» : سخطه السابق ، الذي ظهر سماته للعبد على وجوه المطرودين ، وسوابق المشيئة الأزليّة ، وامتناع جماله بعزّته عن مطالعة غير العاشقين به ، فأخرجهم بصورة المقبولين ، وكانوا في الأزل من المطرودين ، فما عرّفهم مكان قهره.
ومكره بهم وعليهم ، فأبرز لهم أنوار السعادة ، وأزّمهم في ورطات قهرياته بأزمة الشقاوة ، فما رأوا على أنفسهم حلي الطاعات ، وغفلوا عن ظلمات بواطنهم ؛ لأنهم مطموسون بطمس مكر الأزل.
قال تعالى في وصفهم : (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف : ١٤] ، هذا وصف مكر البعد منه ، فالمكر في الأولياء مكر انبساط وقرب ، وهو من علم المجهول ، وذلك مقام الالتباس حيث ظهر عين الصفة في عين الفعل على حدّ الجمع والتفرقة ، وتلك لطائف مشاهدة المتشابهات من الاستواء والنزول ، وغيرهما من الصفات ، وما ذكرنا بمجموعه ، فيكون في إشارته عليهالسلام حين عاين العدم في مرآة الحدث ، بقوله صلىاللهعليهوسلم : «رأيت ربي في أحسن صورة» (١).
وهذا محلّ العشق والبسط والانبساط ، والأنس والشوق.
قال الشبليّ : المكر في النعم الباطنة ، والاستدراج في النعم الظاهرة.
وقيل : «المكر» مكران : مكر تلبيس ، ومكر هلاك.
__________________
(١) رواه الترمذي (٣ / ٥٦٥).