ومرابع سنا الإسلام والدين ، ويتفرد القلب بنور الموحّد والتوحيد من كلّ خاطر غير خاطر الحقّ ، ويكون القلب كلّه مستغرقا في بحار محبّته ، والروح هائمة في أودية هويته ، والعقل تائها في صحاري أزله وأبده ، ولا يكون منها جميعا نظر إلى غيره.
فإن النفس حجاب القهر بينها وبين بارئها ، الذي هو منعم عليها بإلقاء محبّة وجهه فيها ، ونصرها على نفوسها وهواها ، وفي ذلك مدح نفسه تعالى ، بقوله : (نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) : نعم المولى لأوليائه ، ونعم النصير لعمّاله ، أنعم بسبق ولايته ومحبّته على المحبين في أزله ، وعلى المجاهدين له هواهم ونفوسهم ، بنصرته لهم إلى أبد أبده.
قال بعضهم : نعم المولى لمن والاه ، ونعم النصير لمن استنصره.
وقيل : نعم المولى لأهل الولاية ، ونعم النصير لأهل الإرادة.
يقال : نعم المولى بالتعريف.
وقيل التكليف ، ونعم الناصر لك بالتخفيف والتضعيف يضعف الحسنات ، ويخفّف عنكم السيئات ، فأنشد :
هواك أول ما عرفت من الهوى |
|
والقلب لا ينسى الحبيب الأزلا |
قوله تعالى : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) : نفي التدبير عن ساحة التقدير ، ويخرج ما في المشيئة الأزلية على لباس الأمر بنقض العقود والعزائم التي اجتمعت عموم الخلق عليها.
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : عرفت الله بنقض العزائم ، وفسخ الهمم.
قال جعفر : ما قضى في الأزل يظهره في الحين والوقت بعد الوقت.
وقال بعضهم : ليكشف عن سوابق علمه في غيبه ، باتّصال كلّ من الفريقين إلى ما سبق له منه في أزله ، ثم صرف الخلق من ديمومة المشيئة ، إلى صورة الأحكام ، لعلمه بقلّة إدراكهم سوابق القسمة في الأزل ، بقوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) : قدّر في الأول ، ونصب أعلام القهر واللطف في الطريقة في الآخر ، فيرجع الآخر بما يبدو منه إلى مصدر تقدير الأول ، وبيّن أنه منزّه عن الجهل والظلم ، نصب الأدلّة لبيان حكمته ، وإثبات حجته.
(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) : أمره السابق ، وإرادته القائمة.
(وَيَحْيى مَنْ حَيَ) : بتلك البيّنات.