ثم منّ على أصحابه حين بلغوا هذه الرتبة ، بقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) أي : ما تفعلون بقوّتكم في المجاهدات والجهاد ، فأنصركم بقوّتي ، وأريحكم بكشف مشاهداتي عن مشقّة المجاهدة ، وما أفعل لكم خير مما تفعلون لأنفسكم.
قال ابن عطاء : ما في السماء لا يوجد إلا بالافتقار ، وما في الأرض لا يوجد إلا بالاضطرار.
وقال النصر آبادي : هذا التخفيف كان للأمّة دون الرسول عليهالسلام ، ومن لا تثقله حمل أمانة النبوّة كيف يخاطب بتخفيف اللقاء للامتداد ، وكيف يخاطب به الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وهو الذي يقول : «بك أصول وبك أجول» (١).
ومن كان به كيف يخفّف عنه ، أو يثقل عليه؟
قوله تعالى : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ).
أخبر سبحانه عن سرّ فطرة النفس الأمّارة التي من حيلة ما إن تميل في أكثر الأوقات إلى شهواتها ، وذلك ميلان النفس ، لا ميلان القلب.
أخبر عن الخطرات دون الوطنات ، وحاشا أنهم يريدون عرض الدنيا ، ولا يريدون مشاهدة الحقّ ، ولقاء الآخرة لكن ما مسامحهم الله في حرمان تلك الخواطر لقدس أسرارهم ، وطهارة نيّاتهم في معرفته وخدمته ، ألا ترى كيف حذّر نبيّه صلىاللهعليهوسلم مع جلالته عن النظر إلى عرض الدنيا ، بقوله : (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ٢٨] ، وقال تعالى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) [طه : ١٣١] أي : تريدون الرفاهية في المجاهدة من قبيل خاطر النفس ، وأنا أريد بكم كشف مشاهدة الآخرة ، ووصولكم إلى مقام القربة والمشاهدة.
قال جعفر : ما يريد الله لكم خير مما تريدون لأنفسكم.
(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ
__________________
(١) ذكره القشيري (٣ / ٥٣).