أي : ومن المدّعين من يعجبك طاماته ومزخرفاته ، وما كان بخلاف خاطره ، وأخبر تعالى نبيه عليهالسلام أن قوما يأتونك ويتكلفون في دقائق الكلام ، ويظهرون خصائص الأحوال والكرامات التي كانوا يسمعونها من أهل المعرفة ، ويتوقون في الإشارات والغوامض من العلوم ، وهم بمعزل عن حقائقها ، هؤلاء فراعنة الضلالة ، لسانهم لسان الأنبياء ، وقلوبهم قلوب الذباب ؛ لأن الله تعالى سلب نور الإيمان عن قلوبهم ، وألبس بسط الكلام ألسنتهم ، ليس لهم في مقامات الأصفياء نصيب ، ولا لهم في أغصان أشجار معارفهم وكواشفهم نصيب ، ولا على قولهم اعتماد ، ولا على عهدهم اتكال ، صرف الله وجوههم عن قبلة الحقيقة ، ومنعهم عن ملاحظة حق الشريعة ، وأقفل أبواب قلوبهم بختم الضلالة ، وحجبهم عن إدراك أنوار البصيرة حتى ليس في جرابهم من معنى الحقيقة معنى ، ولهم في كل محفل من الأباطيل دعوى ، فالواجب على السالكين الإعراض عن مجالستهم ؛ لأنهم أعداء الله ، وأعداء أوليائه حتى سلموا من شؤم مذهبهم ، وقبح مقالتهم ، وهؤلاء أهل البدع والأهواء ، يفتنون هذه الأمة ، ويحجزهم عن طريق الحق ، وينكرون أهل الإصابة ، ويغرون أهل الإرادة ، ويصدونهم عن الطريقة ، والله يشهد أنهم لكاذبون في دعواهم ، يتلذذون في محاوراتهم مع الصديقين بأسوأ المخاطبات ، يغري الخلق رونق لباسهم ، وزينة هيئتهم ، ويجذبون قلوب الناس بحلو كلامهم ، واصفرار وجوههم ، واقصرار أكمامهم ، وانتفاخ أقدامهم ، ليضعوا أقدامهم على أعناق الأنام ، (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ).
وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري : الإشارة إلى أهل الظاهر الذين لم يساعدهم أنوار البصيرة ، فهم مربوطون بأحكام الظاهر ، لا لعبرة بهذا الحديث إيمان ، ولا لهذه الجملة استبصاره ، فالواجب صون الأسرار عنهم.
(وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) فأخبر سبحانه أن هؤلاء القوم إذا خرجوا بزينة الأبرار والأتقياء ، لصرف وجوه الناس إليهم ، شدوا أوساطهم في جذب الأموال ، وجر المنافع حتى فاقوا على الناس كلهم ، فإذا خلوا إلى أهل العزة والفتنة ، ألقوا بذر الكفر والنفاق والأهواء المختلفة في قلوبهم ، وحصدوا زرع الإيمان عن صدور ضعفاء المريدين ، وقطعوا وسيلة الألف من بين السالكين في الله ، (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) الإشارة فيه أي إذا كان لا يحب الفساد لا ينصر أهله ويخذلهم في كل مواطن حتى لا يطيقوا أن يطفئوا نور الله بأفواه الضلالة عن سرج قلوب المؤمنين.
(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أي : إذا قيل لهؤلاء المفسدين المدعين اتقوا الله ولا تظهر خلاف ما تضمرون عن أمر ربهم ، واستكبروا وتجبروا وأكثروا فسادهم ؛