نسل ولد إسحاق ، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظّمون بيت المقدس ، ويصلّون إليه ، فلو كنت على ما كانوا عليه لعظّمت ما عظّموا ، ولما تحوّلت عن بيت المقدس ، وعظّمت مكانا آخر اتخذته مصلّى وقبلة ، وهو الكعبة ، فخالفت الجميع.
فردّ عليهم بقوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦)) وتقريره أنّ البيت الحرام الذي نستقبله في صلاتنا هو أول بيت للناس يعظّمونه ، ويتعبدون الله فيه ، بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام لأجل العبادة خاصّة ، وقد قال إبراهيم : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [إبراهيم : ٣٧].
ثم بنى سليمان بن داود عليهماالسلام بيت المقدس بعد ذلك بعدة قرون.
فماذا فعل النبي صلىاللهعليهوسلم غير أن امتثل أمر ربّه ، فرجع إلى قبلة أبيه إبراهيم ، واتخذها مصلّى. وأوّلية البيت قيل : أولية شرف ، وقيل : أولية زمان ، ولا مانع من أن يكون كل منهما مرادا ، فقد مرّ أن إبراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا البيت المحرّم للعبادة ، ثم جاء سليمان وبنى بيت المقدس ، فالأولية زمانية ، وهي تستلزم أولية الشرف.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أنه أول بيت وضع على الأرض بالنسبة للبيوت مطلقا ، فقالوا : إن الملائكة بنته قبل خلق آدم ، وأن بيت المقدس بني بعده بأربعين سنة. روى البخاري ومسلم من حديث أبي ذر قال : سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن أول بيت وضع للناس؟ فقال : «المسجد الحرام ، ثم بيت المقدس» فقيل : كم بينهما؟ قال : «أربعون سنة» (١).
وقد يقال : إنّ هناك تعارضا بين ما ذكرنا من أنّ بناء الكعبة كان قبل بناء بيت المقدس بعدة قرون ، وأن الذي بناه إبراهيم ، وبين ما روي من أن الذي وضعها الملائكة قبل بيت المقدس بأربعين سنة ، وقد أجيب بأنّ الوضع غير البناء ، وبأنه لعل الذي كان من إبراهيم وسليمان كان إعادة ، ومعلوم أن بين إبراهيم وسليمان عدة قرون فلا منافاة.
(لَلَّذِي بِبَكَّةَ) بكة اسم لمكة كما روي عن مجاهد ، وإبدال الميم باء كثير في كلامهم ، وقيل : هو بطن مكة حيث الحرم.
(مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) بيان لحاله الحسية الحسنة ، والمعنوية الشريفة ، وأما الأولى فهي ما ساق الله إليه من بركات الأرض ، ومن ثمار كل شيء ، ومن جميع الأقطار ، مع
__________________
(١) رواه البخاري في الصحيح (٤ / ١٦٤) ، ٦٠ ـ كتاب أحاديث الأنبياء ، ٤٠ ـ باب قول الله تعالى : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) حديث رقم (٣٤٢٥) ، ومسلم في الصحيح (١ / ٣٧٠) ، ٥ ـ كتاب المساجد ، حديث رقم (١ / ٥٢٠).