قال : بلى. قالت : فإنّ الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم ، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا ، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فرضيته.
وقال بعض الناس : إنّ التهجد لم يكن مفروضا لا على النبي صلىاللهعليهوسلم ، ولا على أحد من أمته ، واحتجّوا على ذلك بما يأتي :
١ ـ ظاهر قوله تعالى في سورة الإسراء (نافِلَةً لَكَ) [الإسراء : ٧٩] فإنه يفيد أنّ التهجد زيادة لم تتعلق بها الفرضية ، وقد علمت ردّه فيما سبق.
٢ ـ أنّ الأمر في قوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ) وقوله جلّ شأنه : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ) لا يفيد الوجوب ، وحمله على الندب أولى ، لأنّا وجدنا أوامر الشريعة تارة تفيد الوجوب ، وتارة تفيد الندب ، فينبغي حمل ما يرد منها على القدر المشترك بينهما ، وهو ترجيح جانب الفعل على جانب الترك ، دفعا للتجوّز والاشتراك اللفظي ؛ وإذا كان الأمر كذلك كان الثابت معنى الندب ، لأن تمام معنى الواجب ـ وهو عدم جواز الترك ـ لا بدّ له من دليل آخر ، كالتوعد على الترك ، أو قرينة أخرى تدل على ذلك ، وهو غير متوفّر في الأمرين السابقين ، فبقي الترك على أصله ، وهو الجواز.
والجواب يعلم مما تقرر في علم الأصول ، وهو أنّ المختار في الأوامر حملها على الإلزام ، إلا أن يصرف عن ذلك صارف ، وهو مذهب الجمهور.
٣ ـ أنه تعالى ترك تقدير قيام الليل إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وخيّره بين أن يقوم نصف الليل ، أو يزيد عليه ، أو ينقص منه ، ومثل هذا لا يكون في الواجبات ، فإنّ الشأن فيها أن تعيّن وتحدّد مقاديرها ، كما في المكتوبات.
والجواب : أنه لا مانع من ذلك. وقد عهد في الشريعة أن يفرض الله على المكلف أحد أمور معينة ، بحيث لا يجوز له الإخلال بها جميعا ، ثم إذا فعل واحدا منها كان قائما بما وجب عليه ، فيكون قيام الليل مفروضا ، بحيث لا ينقص كثيرا عن النصف ، فإذا قام المكلف في الليل قريبا من نصفه فقد حصل الواجب ، وإذا زاد إلى النصف ؛ أو أكثر منه كان محصّلا للواجب من باب أولى.
وبعد فهذه أقوال ثلاثة قد عرفت مآخذها ، وعرفت الردّ على ما استدل به أصحاب القول الثالث.
أما ما استند إليه أصحاب القول الأول فيمكن الجواب عنه بأنّ توجيه الخطاب إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم وحده لا يقتضي تخصيصه بما ورد بعده من الأوامر ، فإنّه عليه الصلاة والسلام نبيّ متبوع ، وخطابه يتناول أمته ، كما هو معروف في الأصول ، إلّا أن يقوم دليل على الخصوص.