وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦))
(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ) أي يصرف عنهم (يَوْمَئِذٍ) أي يوم قتالهم (دُبُرَهُ) أي ظهره منهزما ليلا أو نهارا (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) نصب على الحال من الضمير الفاعل ، أي إلا منصرفا بعد الفرار يريد الكرة للقتال ، يعني بأن يخدعهم ويريهم الفرة وهو يريد الكرة (أَوْ) إلا (مُتَحَيِّزاً) من حازه يحوزه إذا ضمه ، وأصله متحيوز ، أي إلا منضما إذا كان منفردا من فئة هو فيها (إِلى فِئَةٍ) أي جماعة من أصحابه يمنعونه من العدو (فَقَدْ باءَ) أي رجع (بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي باستحقاقه (وَمَأْواهُ) أي مستقره (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [١٦] هي ، قال ابن عباس : «إن الفرار من الزحف من أكبر الكبائر» (١) ، يعني به إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ، قيل : «حكم هذه الآية عام في كل فار» (٢) ، وقيل : «خاص بيوم بدر» (٣) ، «لأنهم لم ينحازوا إلا إلى المشركين ، إذ لم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم لينحازوا إليهم» (٤) ، فأما بعد فالمسلمون فئة لكل فار فلا يكون كبيرة ، وقيل : هي منسوخة بقوله (٥)(الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ)(٦).
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧))
قوله (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) بقوتكم لضعفكم عن قتلهم ، نزل حين افتخروا بعد انهزام قوم بدر من المشركين بقولهم قتلنا فلانا وقتلنا فلانا نهيا عن الافتخار والإعجاب بأنفسهم (٧) ، والفاء فيه في جواب شرط محذوف ، تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) بنصره إياكم ، وذلك بانزال الملائكة وإلقاء الرعب في قلوبهم وتشجيع أنفسكم على القتال باذهاب الفزع والجزع عنكم ، روي : أن النبي عليهالسلام لما التقى الجمعان أخذ قبضة من حصباء الوادي فرمى بها في وجوه الكافرين ، وقال : شاهت الوجوه فلم يبق كافر منهم إلا شغل بعينه فانهزموا فأتبعهم المسلمون بالقتل والأسر ، فقال لهم فلم تقتلوهم (٨) ، وقال للنبي على السّلام (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) أي لم يفعل رميك بالكافرين ما فعلت بقوتك ، لأن قوة البشر لا تؤثر ذلك الأمر العظيم (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) بفتح النون وتشديدها ، ونصب (اللهَ) ، وقرئ بكسرها والتخفيف ورفع «الله» (٩) ، أي ولكن الله فعل الرمي وأثر رميته فيهم ليقهر الكافرين فأثبت الرمية للنبي عليهالسلام صورة ونفاها عنه حقيقة لضعف الطاقة البشرية عنها ، فكان الفاعل في الحقيقة هو الله تعالى ، قوله (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على «ليقهر» المقدر المذكور ، وهو من الإبلاء بمعنى الإعطاء ، أي ليعطي الموحدين بالله (مِنْهُ) أي من فضله (بَلاءً حَسَناً) أي عطاء جميلا ، وهو الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لدعاء الرسول عليهالسلام (عَلِيمٌ) [١٧] بنيته وباجابة دعائه.
(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨))
(ذلِكُمْ) أي البلاء الحسن ، خبر مبتدأ محذوف ، أي الغرض ذلكم ، قوله (وَأَنَّ) بالفتح مع ما بعده ، عطف على «ذلكم» ، أي والغرض أن (اللهَ مُوهِنُ) أي مضعف (كَيْدِ الْكافِرِينَ) [١٨] ببدر ، قرئ بالتخفيف والتشديد
__________________
(١) انظر الكشاف ، ٢ / ١٦٠.
(٢) أخذه عن البغوي ، ٢ / ٦٠٩ ـ ٦١٠ ؛ وقال الحسن نحوه ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٠.
(٣) عن الضحاك ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٠.
(٤) عن أبي نضرة ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٠.
(٥) عن أبي أبي رباح ، انظر البغوي ، ٢ / ٦١٠ ؛ وانظر أيضا النحاس ، ١٤٩ ـ ١٥١.
(٦) الأنفال (٨) ، ٦٦.
(٧) عن مجاهد ، انظر البغوي ، ٢ / ٦١٠ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ١١.
(٨) أخذه المصنف عن البغوي ، ٢ / ٦١١.
(٩) «ولكن الله رمى» : قرأ الشامي والأخوان وخلف بتخفيف نون «ولكن» وكسرها وصلا ورفع لفظ الجلالة ، والباقون بتشديد النون وفتحها ونصب لفظ الجلالة. البدور الزاهرة ، ١٢٩.